رئيس ادعاء عام/ طرفة بنت ناصر اليحيائية:
وفي مُوازاةِ هؤلاءِ الغالبية، لا يزال هناك من يُؤمن بالشعوذة والسّحر، ويجزم بفاعليّتهما وبنتائجهما الإيجابيةِ الأكيدة، وهو ما يدفعهم إلى اللجوء إلى هكذا أفعال، دونما اكتراث لعواقبها. فقد يخسر ماله أو نفسه أو أعز الناس إلى قلبه، وقد يخسر شرفه أيضًا، فالمشعوذون ومن على شاكلتهم لا يكتفون بكسب المال فحسب، بل أعمتهم أنفسهم الآثمة وأفعالهم الدنيئة إلى هتك الأعراض، بعد أن يوهمون فريستهم بأنَّ ذلك الفعل الآثم هو سبيلهم الوحيد للعلاج، وإخراج السّحر من أجسادهم، وهنا يقع ما لا يُحمد عُقباه.
أولًا ـ كلمة الابتداء:
الغالبيةُ العُظمى من الناسِ لا يؤمنون بالسِّحر ولا بالشّعوذة، ويرَون أنَّ المُمارسين لأيٍّ منهما، ما هم إلا دجّالون ومُحتالون، لا يبتغون من وراء أفعالهم تلك، إلا الضّحك على العقول بل وعلى الذقون في الوقت نفسِه، وأنهم يُداعبون وتر احتياجات ورغبات أولئك الذين ترنو أعينهم إلى الظّفرِ بعلاجٍ ناجعٍ لمرضٍ ألمّ بهم، بأيِّ وسيلةٍ كانت، لأنفسهم أو لأزواجهم أو لفلذاتِ أكبادِهم، أو لأحدٍ من المُقرّبين إليهم، فيوهمون المريض أو أحدًا من ذويه، أنَّ به مَسٌّ من السّحر، أو أصابه الحسد، أو نحو ذلك، وأنَّ بمقدورِهم تقديمِ علاج روحانيٍّ شّافٍ، لإبطال السّحر أو الحسد أو العين، مُقابل التكسُّب من ورائهم بأيِّ شكلٍ من الأشكال.
ثانيًا ـ حيثيات القضية:
ففي القضيةِ الماثلة، عرف المتهم (المشعوذ) نقطة ضعف ضحيته ورغبتها في إنجاب الأطفال، بعد سنينٍ طويلة من الزواج، فاستغل حالتها النفسية، وخوفها من أن تستمر حياتها دون زينتها، فتحرم من الأمومة، فيتزوّج عليها زوجها، لعدم قدرتها على الإنجاب. ظهر لها المتهم مُتخفّيًا تحت غطاءِ الدّين ولباسِ التقوى، مُدّعيًا لها ولزوجها قدرته على علاجها مما هي فيه، بالرُقية الشرعية، مُستغلًا جهل الرجل، وحاجة زوجته المُلِّحة للإنجاب، فما كان من المجني عليها إلا أن ذهبت إلى منزل المتهم بمعيَّة زوجها وشقيقتها، فادّعى لهم بأنه لن يلمسها مطلقًا، بل إنَّ (الجنيَّة) هي من ستمسح عليها، وطلب من زوجها الانتظار خارجًا، بينما بقت أختها برفقتها، فغطى رأسه، وأخذ يتحدث بصوتٍ نسائيّ رخيم، وفي الوقت نفسه، يمسح بطنها بيديه، ابتداءً من الصُرَّة، صعودًا إلى الصدر، وإلى الظهر، حتى وضع يده على مواطن عفتها، فما كان منها إلا أنْ أوقفته وبشدة، مع الصراخ في وجهه، وخرجت من فورها وأخبرت زوجها بما فعله المتهم، فتقدم الزوج من فوره، وبرفقته زوجته، إلى مركز الشرطة المختص مكانيًا للإبلاغ عن الجرم.
بضبط المتهم وسؤاله ـ استدلالًا ـ أنكر تعرضه للمجني عليها، كما اعتصم، بعد ذلك، بانكار الاتهام الموجّه إليه جُملةً وتفصيلًا، عند استجوابه أمام عضو الادعاء العام.
ثالثًا ـ تصرف الادعاء العام:
هذا، ولقد استقرّ في يقين الادِّعاء العام، بعد الانتهاء من التحقيقات، أن المجني عليها تعرّضت فعلًا للإساءة من قبل المتهم الذي خدش حيائها العرضي، من خلال تلك الملامسات اللاأخلاقية، متظاهرًا أنه يقدم علاجًا شرعيًا لها، كما التفت الادِّعاء العام عن واقع اعتصام المتهم بإنكار الاتهام، بعد أن أيقن أن ذاك الاعتصام ما كان إلّا للنأي بنفسه عن المسؤوليةِ الجنائية، والإفلات من العقاب.
وعليه، قرّر الادِّعاء العام إحالة المتهم إلى المحكمةِ الابتدائية المختصة مكانيًا، بالتهم التالية: جنحة (التعرّض لأنثى على وجهٍ يخدش حياءها) المُؤثمة بالمادة (266/أ) من قانون الجزاء التي تنص على أنه:(يعاقب بالسّجن مدة لا تقل عن عشرة أيام ولا تزيد على ثلاثة أشهر، وبغرامة لا تقل عن مائة ريال عماني، ولا تزيد على ثلاثمائة ريال عماني، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل ذكر: أ ـ تعرّض لأُنثى على وجهٍ يخدش حياءها بالقول أو الفعل).
رابعًا ـ الحكم الابتدائي:
قضت المحكمة الابتدائية ببراءة المتهم ممّا نُسب إليه من اتهام، وذلك، على سندٍ من القول إنَّ المجني عليها توجَّهت بإرادتها الحُرة إلى المتهم، وبعلمٍ من زوجها، كما أنها واعية، ومدركة، ومتعلمة، ويتوقع، والحال كذلك، ألا تنطلي عليها الحيلة التي استخدمها المتهم. هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى، فإن جلوسها بمعية المتهم، في مكانٍ مُغلق، والسّماح له بلمس بطنها، صعودًا إلى صدرها، لا يتحقق معه فعل التعرض الذي أراده المشرع في السند القانوني الذي أحال به الادِّعاء العام المتهم إلى المحكمة.
خامسًا ـ الحكم الاستئنافي:
لم يرتضِ الادعاء العام بحكم البراءة، فطعن فيه أمام محكمة الاستئناف واستند في استئنافه إلى أنّ ما قام به المتهم من لمسِ مَواطن عفّة المجني عليها ثابت بشهادة الشاهدة التي أكّدت أن المجني عليها لم تتقبل لمسات المتهم المشبوهة، منذ البداية وأنها ظلت توقفه بيدها، لغيرِ مرة، كلما أحست باستطالة تلك اللمسات إلى غير البطن، ومن ذلك الصدر، وأن الأمر بلغ مداه عندما استطالت تلك اللمسات الشيطانية إلى مواطن العفة المغلظة، حيث قاومته بشدة، وصرخت في وجهه. مُشيرًا الادعاء العام في مذكرة الطعن، أن ما قام به المتهم من فعلٍ ما كان إلّا من باب جَس نبض المجني عليها، وأن الفعل الذي أتاه كان مرشحًا للاستطالة إلى ما هو أبعد مما نالته نفسه الآثمة، إذا ما لاحظ قبولاً لدى المجني عليها. انتهى الادعاء العام إلى المطالبة بقبول الاستئناف شكلاً وموضوعًا، والقضاء بمعاقبة المتهم بما أسند إليه من اتهام.
قضت محكمة الاستئناف بعد نظر القضية بعدة جلسات بـ(قبول الاستئناف شكلًا، وفي الموضوع، قضت، بإجماع الآراء، بإلغاء الحكم المستأنف؛ والقضاء مُجددًا بإدانة المستأنف ضده بالجنحة المسندة إليه، ومعاقبته عنها بالسّجن لمدة ثلاثةِ أشهر والغرامة مائتي ريال).
سادسًا ـ كلمة الاختتام:
يُذكّر الادعاء العام أخيرًا للجمهور الكريم أن الإسلام حرّم السحر والشعوذة، تحريمًا قطعيًا، وصنفهما من كبائر الذنوب، حتى أنه يعد من يطلبه أو يعمل به خارجًا من دائرة الإسلام؛ ذلك لأن السحر والشعوذة يقترنان بالشياطين، التي لا تقدم خدماتها للإنس إلا إذا أهينت شرائع الله، أو حصلت على ضحية وقربان، يتقرب به الإنسان من الشيطان، مبتعدًا بذلك كلّ البعد عن أبجديات الإسلام. كما أن سيدنا (صلى الله عليه وسلم) نهانا عن إتيان هذه الأفعال، محذرًا أن المرء الذي يأتي عرافًا قد لا تقبل صلواته لأربعين ليلة، بل قد يؤدي به ذلك إلى الخروج من حظيرة الإسلام.
✱ نقّح القضية، وراجعها للنشر الصحفي مُساعد المدَّعي العام/ ناصر بن عبدالله الريامي.
✱ القضية الماثلة سبق وأن نُشرت في العدد (17) من مجلة (المجتمع والقانون).
المصدر: اخبار جريدة الوطن