محمد بن سعيد الفطيسي
الصين تسير حتى منتصف العام 2016م في الطريق الصحيح نحو هدفها المنشود, وهو أن تتجاوز الإقليمية وتصبح قوة عالمية، كما هو حال الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، رغم بعض المنغصات والعقبات التي تواجهها, وخصوصا من الناحية السياسية والجيوسياسية, وعلى وجه الخصوص حيال تلك القضايا التي تنظر إليها من وجهة نظرها الشخصية على أنها انتهاك لسيادتها القومية والوطنية التاريخية كالمسألة التايوانية وقضية الجزر المتنازع عليها مع اليابان على سبيل المثال لا الحصر.
في العام 2012م صدر لنا كتاب: نهاية المركزية – الخارطة الجيوسياسية للقوى العالمية في العقد الثاني من القرن 21 – وقد تطرقنا فيه إلى عمل تقييم جيوسياسي مرحلي لمستقبل مكانة عدد من القوى العالمية الراهنة كالولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين والهند واليابان على سبيل المثال لا الحصر, وقد وضعنا الصين في حينها بالفصل الثالث الموسوم بـ»المتنمرين الجدد», تحت عنوان: الصين: الإمبراطورية التي تأخرت كثيرا, وقصدنا بالمتنمرين هنا: كل القوى القادمة والتي تحاول التمرد والتنمر على الإمبراطورية والقوة الأميركية المركزية, كما قمنا بتحديث ذلك التقييم الاستراتيجي في العام 2014م, في دراسة تحمل نفس العنوان.
وجاءت خلاصة «تقييمنا الخاص والشخصي» للصين بناء على معطيات المتابعة والمراقبة المتداولة والتي يتم نشرها من خلال تقارير وأخبار وسائل الإعلام الصينية والدولية والعديد من الدراسات وتقارير وأبحاث عدد من المحللين وكتاب مراكز الدراسات السياسية والجيوسياسية والاستراتيجية الدولية خلال الفترة من 2011- 2014م, كالآتي: التأكيد على استحالة ولادة الإمبراطورية الصينية كقوة عظمى عالمية حتى نهاية العام 2030م على أقل تقدير قادرة على لعب دور عالمي جيوسياسي أو جيواستراتيجي شبيه بالولايات المتحدة الأميركية وروسيا, وهذا فقط في حال استمرار الوضع الاقتصادي والعسكري المتنامي إيجابيا للصين وتراجع دور الإمبراطورية الأميركية العالمي, وعدم ظهور أي تحولات ومتغيرات إقليمية أو عالمية سلبية تحول دون ذلك خلال الفترة القادمة بنفس ثبات المعطيات والشروط سالفة الذكر, مع الأخذ في الاعتبار بأن القرن الـ21 سيكون قرنا متعدد الأقطاب والقوى العالمية الفضفاضة, وبالتالي صعوبة امتلاك قوة بعينها دفة الهيمنة العالمية.
ورغم أن القوة العسكرية الصينية ـ كما تطرقنا في التقييم الأخير ـ تبدو مخيفة بصفة عامة, نظرا لعدة عوامل أهمها بالطبع القوة البشرية الهائلة، فعدد أفراد القوات المسلحة الصينية يصل إلى 2.5 مليون جندي، وهو ما يشكل الجيش الأكبر عالميا من حيث القوة العددية, إلا أن مسألة العدد الأكثر قد فقدت الكثير من تأثيراتها في ظل تطور نظم التسليح الحديثة والمتطور, والاعتماد على التكنولوجيا العسكرية أكثر منها على القوة البشرية, عليه فقد تم بناء التقييم بالنسبة للصين حتى تصبح أو تقترب من مفهوم «قوة عالمية» وفق معايير وضرورة تحقيق الشروط والمعطيات الآتية:
(1) امتلاك الإمبراطورية الصينية الاتساع الجيواستراتيجي الكافي لتخطي حدود الدولة الإقليمية، وذلك من خلال تواجدها وحضورها في مختلف أرجاء العالم، سواء كان بالتواجد أو القوة الناعمة أو الصلبة المباشرة أو غير المباشرة, حيث لا يجب أن يقتصر نفوذها الخارجي فقط على القطاعات الاقتصادية، بل ينبغي أن يتضمن أيضًا وجودًا عسكريًّا ملموسًا يؤثر في الأحداث والتطورات السياسية الجارية.
(2) امتلاك القوة الناعمة المناسبة للهيمنة العابرة للقارات، كما هو اليوم مع الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال لا الحصر, وقد نجحت بالفعل من الناحية الاقتصادية، ولكنها ما زال حضورها الثقافي أو التعليمي أو الدبلوماسي على سبيل المثال لا الحصر, أو غيرها من وسائل القوة الناعمة ضعيف جدا على رقعة الشطرنج الدولية.
(3) امتلاكها لما يسمى بالقدرة العسكرية اللوجيستية العابرة للقارات, والتي تؤهلها للمحافظة أو حتى الدفاع عن مصالحها خارج نطاق محيطها الإقليمي الجغرافي كامتلاك الأقمار العسكرية المتطورة, وطائرات التزود بالوقود في الجو, وحاملات الطائرات, وامتلاكها للغواصات النووية والإستراتيجية القادرة على احتواء أو مواجهة أبسط الأخطار الموجهة لسيادتها تحت الماء, وطائرات الإنذار المبكر, وبالطبع فإنه من الضرورة أن تمتلك أكثر من قطعة عسكرية واحدة من كل ما سبق ذكره.
عليه، فإننا وانطلاقا من المعايير سالفة الذكر, وبناء على تقييم قمنا به في العام 2011م وآخر في العام 2014م سنقوم بإعادة بناء وكتابة تقييم جديد يأخذ بالاعتبار التحولات والمتغيرات الجيوسياسية والجيواستراتيجية الجديدة والتي حدثت خلال الفترة من العام 2015 وحتى منتصف العام 2016م والخاصة بالقوة الصينية بناء على المعطيات السابقة, ومن أبرزها:
(1) وصول الصين للمرحلة التي أصبحت فيها موازنتها العسكرية هي الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية حيث بلغت رسميا 146 مليار دولار أميركي بزيادة نسبتها 7,6% في العام 2016م، وهذه الموازنة لا تتضمن نفقات تحديث الأسلحة النووية أو مشتريات أسلحة من الخارج, وتبلغ النفقات العسكرية الصينية الحقيقية ما بين 150 و200 مليار دولار بحسب أغلب المؤشرات والمراقبين.
(2) بالرغم من أنها تأخرت كثيرا في هذا المجال, إلا أن الصين دشنت في العاشر من أغسطس من العام 2011م أول حاملة طائراتها، وفي 31/9/2015 دشنت الحاملة الثانية, لتصبح بذلك خامس دولة آسيوية تملك مثل هذا السلاح، والدولة الحادية عشرة على مستوى العالم, كما تواصل إنتاج طائرة الشبح جي-20 الخاصة بها وصاروخها دي. في-21دي الباليستي المضاد للسفن الذي يبلغ مداه الأقصى 1500 كيلومتر ولكنها حتى منتصف العام 2016م للأسف لا تملك طائرات التزود بالوقود في الجو، وهي من القطع اللوجيستية المهمة جدا للقوى العابرة للحدود, وبحسب موقع فلايت جلوبال المتخصص في تصنيف القوات الجوية لدول العالم، فقد بلغت القوة الصينية في العام 2016م وبشكل عام بـ2942 طائرة، منها 1997 طائرة لدى سلاح الجو في جيش التحرير الشعبي الصيني، و556 لدى قواته البرية، و409 تمتلكها القوات البحرية.
(3) نجاح الصين بدرجة كبيرة في استثمار صادرات قوتها الاقتصادية والعلمية عسكريا فيما يسمى بالاستثمارات في حروب الإنترنت والحروب المضادة للأقمار الصناعية، والأسلحة المضادة للطائرات والسفن، والصواريخ الباليستية, والتي يمكن أن تهدد طريقة أميركا الأساسية في عرض القوة ومساعدة الحلفاء في الباسيفيك – وخاصة القواعد الجوية المتقدمة، ومجموعات الحاملات الضاربة», وكذلك أنواع الأسلحة المستقبلية كتطوير أسلحة الطاقة الحركية، وأشعة الليزر عالية الطاقة، وأسلحة الميكروويف عالية الطاقة، وأسلحة حزم الجزيئات، وأسلحة النبضات الكهرومغناطيسية, وطبقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام فقد زاد تصدير السلاح الصيني بنسبة 143% في الأعوام الخمسة الأخيرة، هذا الأمر أدى لزيادة نسبة مشاركة الصين في سوق تصدير السلاح العالمي من 3% إلى 5%.
(4) تطويرها أنظمة صاروخية متقدمة لاستهداف الأقمار الصناعية العسكرية، وأنظمة صاروخية مضادة للصواريخ العابرة للقارات, وهو مجال عمل يجعل الصين أكثر تقدما، من الناحية العسكرية، من دول مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا واليابان.
(5) توسع دائرة تحالفاتها وقواعدها العسكرية للتعويض عن ضعف قدراتها الجيوسياسية وخصوصا في منطقة جنوب وجنوب شرق آسيا المحيطة بالهند والقريبة من تايوان, كذلك توسع التواجد الصيني العسكري في القارة الإفريقية خصوصا, فعلى سبيل المثال يوجد في السودان وحده ما يزيد عن 4 آلاف جندي صيني, كما أقامت قاعدة عسكرية أخرى في جيبوتي, وتضيف دراسة إسرائيلية أعدها «معهد أبحاث الأمن القومي، إنه في الـ26 من نوفمبر 2016 نُشر أن الصين وقعت مع حكومة جيبوتي معاهدة لإقامة قاعدة دعم لوجيستي للعمليات العسكرية على أراضيها وتشغيلها على مدى عقد من الزمن, وهذه الخطوة التي فاجأت بعض وسائل الإعلام يمكن تحليلها في سياق واسع، كجزء من توجهات طويلة المدى في الصين، والشرق الأوسط، والساحة الدولية، من بينها: الاستراتيجية الشاملة للصين في العالم، وفي إفريقيا، في البحار وطرق الملاحة، وثقافتها الاستراتيجية، واستراتيجيتها العسكرية، وأدواتها السياسية ومبادراتها الاستراتيجية، وكذلك دلالات كل هذا بالنسبة للدول الكبرى وتركيبة قوتها.
(6) تلاحظ أن الصين تعمل بشكل واضح خلال الفترة من 2011-2016م على تعزيز مساحة قوتها الناعمة, وقد تعهد الرئيس الصيني شي جين بينج في جلسة جماعية نقاشية لأعضاء المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني في العام 2013م بتعزيز القوة الناعمة الثقافية للصين من خلال نشر القيم الصينية الحديثة وإظهار سحر الثقافة الصينية للعالم, وحث على بذل جهود أكبر لتعزيز الثقافة الاشتراكية وتعميق الإصلاح في النظام الثقافي وتدعيم الإبداع الثقافي للشعب، وبحسب مساعد وزير الدفاع الأميركي ورئيس مجلس الاستخبارات الوطني في الولايات المتحدة سابقا، وأستاذ بجامعة هارفارد، وعضو مجلس الأجندة العالمية حول مستقبل الحكم في المنتدى الاقتصادي العالمي أن هناك خشية من قوة الصين الناعمة في المستقبل, وربما بدأت فعليًّا تسبق دولًا مثل الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، تشير تقديرات الباحث الأميركي في الشؤون الصينية ديفيد شامباو إلى أن البلاد تنفق ما يقرب من عشرة مليارات دولار سنويًّا على «الدعاية الخارجية». وبالمقارنة، أنفقت الصين نحو 666 مليون دولار فقط على الدبلوماسية العامة في العام 2015م.
إذًا، الصين تسير حتى منتصف العام 2016م في الطريق الصحيح نحو هدفها المنشود, وهو أن تتجاوز الإقليمية وتصبح قوة عالمية، كما هو حال الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، رغم بعض المنغصات والعقبات التي تواجهها, وخصوصا من الناحية السياسية والجيوسياسية, وعلى وجه الخصوص حيال تلك القضايا التي تنظر إليها من وجهة نظرها الشخصية على أنها انتهاك لسيادتها القومية والوطنية التاريخية كالمسألة التايوانية وقضية الجزر المتنازع عليها مع اليابان على سبيل المثال لا الحصر, والتي تلاها القرار الصيني الخطير بإنشاء منطقة دفاع جوي تشمل كل الجزر غير المأهولة والخاضعة اليوم لسلطة اليابان، ما يترتب عليه تقاطع المنطقتين الدفاعيتين الجويتين الصينية واليابانية, وهو أمر يضعها في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية الحليف الاستراتيجي لليابان.
عليه وبناء على المعطيات سالفة الذكر, وبالاعتماد على المسار الراهن والصحيح الذي تسير عليه الصين حتى منتصف العام 2016 مع افتراض أن يبقى سيناريو الاستمرارية هو السيناريو المعتمد لمستقبل الصين دون منغصات جذرية في الاقتصاد والسياسة يمكن أن يحول دون استمرار الصين في طريقها الصحيح للخروج من الإقليمية والاتجاه إلى العالمية, فإننا يمكن أن نتوقع بأن الصين ستنجح في عبور ذلك الخط الفاصل بين العالمية والإقليمية خلال الـ15 سنة القادمة. وبمعنى آخر، مع حلول العقد الثالث من الألفية الثالثة؛ أي العام 2030م, وما زلنا نؤكد أنه لا يمكن للصين أن تصل إلى مستوى القوة الأميركية العابرة للقارات حتى ذلك الوقت على أقل تقدير, وهذا على افتراض استمرار تراجع الهيمنة والقوة المركزية للإمبراطورية الأميركية حتى تصل إلى نقطة التقاطع صفر مع الصين في نفس العام.