كتب ـ المحرر السياسي:
منذ أن أشرق فجر النهضة العمانية الحديثة على عمان، وضع حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ رؤية واضحة ودقيقة لمعالم السياسة العمانية، وعلاقاتها بمحيطها، سياسة تقوم على مجموعة من الثوابت المستمدة من الهوية العُمانية الأصيلة، وثقافتها المنبثقة من إرثها الإسلامي وقيمها العربية الثابتة، الضاربة جذورها في أعماق الحضارة الإنسانية.
وقد حدَّد جلالة السلطان المعظم هذه المرتكزات، منذ تولِّيه مقاليد الحكم في البلاد، ففي خطاب جلالته في العيد الوطني الثاني المجيد في 18 نوفمبر 1972م، أكد ـ حفظه الله ـ على ذلك بالقول: “ان سياستنا الخارجية تقوم على الخطوط العريضة” وأشار إلى أهم هذه الخطوط وهو انتهاج سياسة حسن الجوار مع جيراننا وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة، وتدعيم علاقاتنا مع الدول العربية وإقامة علاقات ودية مع دول العالم، والوقوف بجانب القضايا العربية في المجالات الدولية.
وعلى ذلك مضت الدبلوماسية العمانية، مهتدية بالتوجيه السامي، ومسترشدة بالثوابت التي اعلنها منذ فجر النهضة العمانية المباركة، تمد جسور الصداقة مع العالم، وتقيم العلاقات الحسنة والمتكافئة مع الدول المحبة للسلام، ملتزمة بالمواثيق الدولية ومبادئ الأمم المتحدة، وانتهاج الطرق السلمية لحل النزاعات، بما يخدم الأمن والاستقرار العالمي.
وكانت الدبلوماسية العمانية في كل ذلك مرتكزة على الحكمة والتعقل والاتزان، ولذلك لم يكن غريبا أن تحوز تقدير العالم، واحترامه، مما مكنها من القيام بدور فعال في معالجة كثير من القضايا والأزمات، برؤية ثاقبة، وحكمة وجرأة في اتخاذ القرار.
وقد تمكنت السلطنة في ظل استراتيجية السلام التي وضعها حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم، بفضل من الله تعالى، في إعطاء العديد من الأمثلة العملية لتعزيز العلاقات مع الأشقاء، وحل الخلافات الثنائية، بما فيها كل ما يتصل بجهود ترسيم الحدود، في إطار حضاري يرتكز على مبدأ لا ضرر ولا ضرار، ويسمح في نفس الوقت بتحويل الحدود المشتركة إلى معابر خير وجسور تواصل مع الأشقاء والأصدقاء، وبما يحقق المصالح المشتركـة والمتبادلة.
ولأن نهج السلام كان قيمةً عليا لدى جلالة السلطان المعظم، فقد امتلكت السلطنة بفضل توجيهات جـلالته ـ حفظه الله ورعاه ـ وإيمانه العميق بالسلام، القدرة والشجاعة ليس فقط على التعبير بكل وضوح وصراحـة عن مواقفها ورؤيتها حيال مختلف المواقف والتطورات الخليجية والعربية والدولية، ولكنها عملت بجد والتزام من أجل وضع ذلك موضع التنفيذ في علاقاتها مع الدول الأخرى، وفي إطار الثوابت العُمانية.
وكانت رؤية السلام التي أعلنها جلالته تنطلق من موقع القوي المدافع عن حقوقه ومقدساته، يصون عقيدته وكرامته، ويحرص على مد أيادي السلام حرصا منه أن يسود العالم جو من الوئام الإنساني المستدام.
وفي هذا المقام أوضح جلالته ـ حفظه الله ـ في خطابه السامي بمناسبة العيد الوطني الثامن المجيد في 18 نوفمبر 1978م، إلى “أننا أظهرنا للملأ أننا نؤيد وسنواصل تأييدنا الصادق لجميع المبادرات التي تهدف إلى ضمان سلام دائم وعادل في الشرق الأوسط”.
وأكد جلالته ـ حفظه الله ـ “استعدادنا لمد يد الصداقة إلى جميع الذين يمدون يد الصداقة إلينا على أساس الاحترام المتبادل والنوايا الطيبة”، ولذلك حافظت السلطنة على علاقتها الوطيدة مع جميع الدول، ودعت دائمًا لتغليب لغة العقل والحوار في التعامل مع الخلافات، وحل المسائل العالقة بين الدول، دون التدخل في خيارات كل دولة وسياساتها.
وكان النهج السياسي لحضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم ـ حفظه الله ـ حتى في ساعات المحن ـ ثابتًا مُحكمًا، لأنه صِيغَ على أساس التقييم الواعي والواقعي لمختلف القضايا وبمنظور شامل، لا على أساسٍ من الهوى والغرض، فالرؤية الواقعية الحقيقية لجلالة السلطان المعظم ـ حفظه الله ـ، لم تنسق وراء الميول والأهواء.
ومما يبعث على الفخر والاعتزاز، أن مواقف السلطنة ومنهاج سياستها ظل ثابتًا لا يحيد، برغم التحديات والظروف التي مرت بها المنطقة، وظلت رسالة عُمان إلى العالم قائمةً على مبادئ السلام والوئام والإخاء، التي تنبع من قلعة عُمانية متأصلة بجذور التاريخ، وحملها العُمانيون في رحلات استكشافهم وتجارتهم البحرية إلى أصقاع العالم.
وفي وقت كانت نوائب الحروب والدمار والخراب تعصف بالعالمين العربي والإسلامي، وتقرع طبول الحرب في مناطق أخرى، ويُصَب الزيت على النار، وتتعمق الخلافات بين بعض الدول، كانت سلطنة عُمان تضع جهودها السياسية وحنكتها الدبلوماسية لوقف إراقة الدماء، واحترام إرادات الشعوب، ولمِّ الفرقاء إلى مائدة الحوار، وعودة الاستقرار والسلام.
وفي هذا الإطار نجحت السلطنة في وضع اللبنة الأولى للاتفاق التاريخي بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والقوى العظمى حول الملف النووي الإيراني من خلال إعادة الحوار بين الأطراف، وساهمت السلطنة في تقريب وجهات النظر بين الجانبين
حيث استضافت في 9 نوفمبر 2014م، جولة مفاوضات بين (5+1) وإيران، وقامت بجهود وساطة لإنهاء الخلافات، سعيًا لتجنيب المنطقة والعالم مخاطر الأزمات والصراعات.
وكان التوصل إلى اتفاق حول هذا الملف حدثًا تاريخيًّا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، أعطى الدبلوماسية العُمانية شهادة استحقاق وتقدير على الدور الكبير الذي قامت به للتقريب بين الطرفين، والوصول إلى هذا الاتفاق التاريخي، وعلى ما نهضت عليه من الأسس والمفاهيم التي أرستها نهضة عُمان الحديثة التي تتخذ لنفسها عناوين واضحة لا لبس فيها تأخذ بمنهج التسامح والتفاهم وتعزيز آلية الحوار السلمي لحل كافة المشكلات التي تعترض سبيل الأهداف الإنسانية الكبرى التي تسعى إلى تحقيقها كافة المؤسسات الدولية، كي تعيش البشرية في أمن وأمان وتفاهم، ضمن منظومة عيش مشترك تحترم حقوق كافة الأطراف ومصالحها.
ومثلما قادت السلطنة ـ ولا تزال ـ الجهود الرامية لإرساء السلام والدعم المستمر لمبادرات السلام لمختلف قضايا المنطقة وتقريب الأطراف المعنيين حيالها، وحرصت على أن تصل هذه القضايا إلى نهاياتها الناجحة والسليمة التي تحفظ كيان الدول ومصالح شعوبها على قواعد المشاركة والعدالة والمساواة، بذلت السلطنة جهودها في دفع المفاوضات اليمنية وتقريب وجهات النظر بين فرقاء الصراع، ونزع فتيل الحرب الدائر رحاها في اليمن، وذلك بما تملكه السلطنة من رصيد من الثقة لدى أطراف النزاع.
وقد تعاطت السلطنة مع الأزمة اليمنية ـ ومنذ البداية ـ بصورة واضحة وصريحة، ووقفت بشكل ثابت وصادق يؤكد رفضها التام لهدر قطرة دم على التراب اليمني ومن كل الأطراف المتنازعة، فشرعت الأبواب لكل الأطراف واحتضنت العديد من لقاءات التفاوض، وحاولت عدة مرات تقريب وجهات النظر لإيجاد صيغة توافقية لوقف الحرب الدائرة، حيث كانت مسقط بابًا مفتوحًا، ومحطة التقاء مقبولة لدى الفرقاء، يلجأون إليها إذا ما حالت ظروفهم دون الوصول إلى لغة التفاهم والحوار.
وفيما أسهمت السلطنة، بناءً على توجيهات من جلالته ـ حفظه الله ـ بالمساعدة في العثور أو الإفراج عن عدد من الرهائن أو المفقودين في مناطق الحرب والنزاع، فإنها تقدمت كذلك بعدة مبادرات لإنقاذ حياة الكثير من الأشخاص، فاحتضنت الكثير من المصابين في الحرب باليمن وتكفلت بعلاجهم، ومنهم من استقبل لمواصلة العلاج بالمستشفيات المرجعية بالسلطنة دونما تمييز بين انتماءاتهم، وذلك من منطلق حسن الجوار وروح الإخاء والتعاون التي تميز الدبلوماسية العُمانية الحكيمة.
وفي الملف السوري وضعت السلطنة كل الإمكانيات أمام الحل السلمي بالتعاون مع عدة أطراف من شأنها المساهمة في إيجاد مخرج لهذه المعضلة، ووقف المآسي التي تحصل بدولة عربية يذهب ضحيتها الأبرياء يوميا.
وفي الملف الليبي، كانت السلطنة محطة مهمة في أعمال اللقاء التشاوري للهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور الليبي. وجاء هذا الحدث ليضاف ويصب في عدد من حقائق الأمور المتعلقة بصورة السلطنة النقية والرائعة التي رسمتها في المشهد بوصفها واحة للأمان والسلم، ووسيطًا محايدًا لا يتدخل في عمل أي طرف كان بإملاءات أو له أغراض أو مصالح مسبقة وراء هذه الأعمال التي تصب في صالح الشعوب.
إن السمعة الدولية التي اكتسبتها السلطنة من خدمة السلام والوئام والتآخي العالمي، يدعو إلى الفخر والاعتزاز، ولها من المواقف الإنسانية المشرِّفة الكثير مما لا ترغب بذكره أو الإعلان عنه، خصوصًا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وما تقدمه للشعب الفلسطيني، حيث تعتبر أن هذه القضية واجب تمليه الأخوة العربية والإسلامية، وكانت
السلطنة فاعلةً منذ بداية نهضتها الحديثة، تؤدي دورها في المجتمع الدولي، ومحافله بإيجابية وفعالية، وتشارك في دعم القضايا العادلة.
المصدر: اخبار جريدة الوطن