سعود بن علي الحارثي
” على طول مجرى الوادي من قرية الخوض القديمة التابعة لولاية السيب وحتى مدينة فنجاء التي تدخل ضمن أعمال ولاية بدبد كانت المياه الصافية أشبه بنهر متدفق لا تعرف الوهن والكسل وهي تصارع الحجارة وتعاند شموخها وثباتها وتتغلب على تماسكها وضخامة تكوينها فتمرق فيما بينها باحثة عن المخارج والمداخل والمسارات التي تسمح لها بالتقدم والتدفق والجريان المتواصل إلى النهاية،”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عاشرا: طريق الخوض – فنجاء – سمائل
اتصل بي الأخ والصديق علي بن عبدالله الحارثي (أبو الزهراء) في يوم خريفي جميل تتساقط من سحائبه زخات المطر،عارضا علي مرافقته في سيارته ذات الدفع الرباعي (كروزر أف جي)، لأخذ جولة سياحية في وادي الخوض الذي شهد جريانا أكثر من مرة في أيام سابقة، وقد رحبت بالعرض وسعدت به كوني من عشاق الطبيعة والمولع بالسياحة الداخلية واكتشاف المواقع العمانية الجميلة. على طول مجرى الوادي من قرية الخوض القديمة التابعة لولاية السيب وحتى مدينة فنجاء التي تدخل ضمن أعمال ولاية بدبد كانت المياه الصافية أشبه بنهر متدفق لا تعرف الوهن والكسل وهي تصارع الحجارة وتعاند شموخها وثباتها وتتغلب على تماسكها وضخامة تكوينها فتمرق فيما بينها باحثة عن المخارج والمداخل والمسارات التي تسمح لها بالتقدم والتدفق والجريان المتواصل الى النهاية، مشكلة مياهه شلالات تسلب الألباب بخريرها الموسيقي وجداولها التي تتلوى بين الحصى الناصع البياض ومشاهد الطبيعة التي تتشكل وتتكامل مع توفر شريان الحياة… نوح الحمام، نقيق الضفادع، زقزقة العصافير غثاء الماعز… جميعها تغتسل وترتوي وتتقافز وتتهادى وتطرب وتناكف بعضها بعضا فرحا وانتشاء بمقومات الحياة وعناصرها الأساسية ومتناغمة مع هدير المياه المنسابة هنا في بطن الوادي والمتدفقة من سواقي الأفلاج المعلقة على السفوح الشاطئية للمجرى والتي قيل حولها الكثير من الأساطير والخوارق… اما جماليات الوادي المتمثلة في التواءاته المفاجئة وضيق مجراه في مكان وانفتاحه في مواقع أخرى وبركه المائية واحجاره الصماء وكهوفه المتناثرة على جنباته وشجيراته الفواحة عطرا وحصاه المتميز بألوانه وأشكاله وجاذبيته وانسيابيته وانبساطه وجريان الماء على سطحه كلها عناصر تشرح النفس وتسلب العقل وتدعونا إلى التأمل في هذا الجمال الطاغي، فالطبيعة هنا تقدم نفسها بالوان وصور تتكامل وتتناسق وتتمازج لتشكل لوحة غاية في الإبداع والجمال وتسوق للسياحة العمانية دون بهرجة ومساحيق تشوه الحسن الطبيعي. فجأة وبدون مقدمات، انبثقت مدينة فنجا بنخيلها الباسقة وبساتينها المعلقة في السفوح والجبال والهضاب، وأبراجها الشامخة شموخ الجبال التي تحرسها وتحتويها وتشكل قاعدة حقيقية لصمودها واستمرارها وحفاظها على ألقها وجمالها المعماري الفريد، وأحيائها السكنية التي تجاور بيوتها القديمة المنازل العصرية الحديثة، فللمدينة تاريخ ضارب في القدم وأمجاد تتحدث الآثار والشواهد المعمارية عنها بلسان فصيح. هنا في هذا المجرى الرئيسي للوادي المهيب الذي يفصل شرق مدينة فنجاء عن غربها، بشهرته الكبيرة في اتساعه وعمقه، وغزارة مياهه الجارية طوال العام أثناء مواسم الخصب، وعدد روافده، تلتقي عشرات الأودية وقد اجتمع شملها على مدخل هذه المدينة مشكلة في مسار مشترك رسمته يد الطبيعة وخططته المياه المتدفقة عبر العهود الغابرة بما يتوافق مع مستوياتها ومناسيبها وبحيث لا تفيض عن مستوى الضفتين إلا في أيام الفيضانات الاستثنائية كما نقلته وأكدته صفحات التاريخ وأفاض به الرواة في بلادنا المصنفة ضمن حزام المناطق الجافة،(مشكلة) واديا مهيبا تنطلق روافده من قمم الجبل الأخضر وما جاورها من جبال شاهقة تتداخل مع السلسلة الممتدة حتى ولايتي بهلاء والحمراء، والمحاذية للقمم المغذية لأودية المنطقة الداخلية التي تصب في بحر العرب (وادي بني رواحة) الذي يشق مدينة سمائل متجها إلى بلدة (سرور) ليلتقي ب(وادي العق) المحاذية جباله العالية لولاية المضيبي، والذي لا يقل شأنا في علو قممه وعدد روافده ومنسوب مياهه، ولا في همته ونشاطه واندفاعه عن زميله، ومن بلدة سرور إلى قلب ولاية بدبد مرورا بنقطة التجمع في فنجاء يجتمعان بزملاء كثر انطلق بعضها من جبال مشرقية على حدود ولاية الطائيين (واديا منصح ونداب) وأخرى مغربية (واديا الجيلة والفرفارة)، ومن الصعب حصر مجمل الأودية التي تصب في مجرى الوادي الرئيسي. وتتغذى عشرات الأفلاج والقرى والمدن المحاذية لهذا الوادي من مجراه الخصب طوال العام ما جعل منها منطقة زراعية وفيرة بالإنتاج المتنوع،وكانت في الماضي مصيفا لسكان مسقط في فصل اشتداد الحرارة، ويشكل هذا الوادي اليوم متنفسا سياحيا حقيقيا لسكان محافظة مسقط والولايات القريبة منها بالأخص،يتطلب الكثير من الخدمات السياحية كالمظلات ودورات المياه والطرق المعبدة إلى دواخله والتشجير والمقاهي والحدائق.وقد سجل الإمام نور الدين السالمي في تحفته التاريخية الجزء الأول الصفحة 163 حدثا مهما لفيضان الأودية في عمان ومنها هذا الوادي وما فعله في المناطق المجاورة لمجراه حيث يذكر أنه وفي (سنة إحدى وخمسين ومائتين، كان بصحار وبعمان السيل الكثير، وانهدم دور كثير ومات فيه ناس كثير، وأغرق السيل عامة عمان، وبلغ الماء مواضع لم يبلغها قبل ذلك فيما بلغنا… نزل أمر فظيع عجيب في بدبد والباطنة وسمائل ودماء وصحار أمر عظيم جليل… فجاءهم دوي وظلمة وهول مفظع وأمر مطلع… واستهلت السماء فأدفقت عليهم من الماء فبينما هم كذلك في شدة من الغرق وخوف من الفرق ومنهم من أيقن بالمنية والحتف إذ جاءتهم السيول فأحدقت بهم وغرقت النساء والرجال، فغرق الرجل وعياله وتخرب منزله وماله فأصبحوا في ليلة واحدة أصواتهم خامدة ومنازلهم هامدة… وخربت المواضع والعمران حتى أنه ليمر بها الإنسان فتأخذه لمنظرها رهبة…)، وقد ذكر الشيخ السالمي بأن الناس لم يتعرفوا على أملاكهم في ولاية سمائل إلا من خلال الأطلال وبقايا النخيل التي خلفتها الأمطار (وعرفت نخلة صنها من سمائل, وقد قيست الأموال عليها…). من مدينة فنجا انطلقنا إلى مركز ولاية بدبد التي تتميز ببساتينها الجميلة وحصنها المعماري المنيع الذي شيد في قلب المدينة وأفلاجها العديدة وواديها الخصب بالطبع.أوصلنا الطريق المعبد الذي يعبر الوادي متجها نحو الشرق بين الأشجار الخضراء الوارفة الضلال إلى بلدة (نفعاء) التي تحيط بها الجبال من كل الجهات ويشقها وادي (منصح) إلى جزأين شرقي وغربي ومن الشاطئين تمتد النخيل وأشجار الموز والجوافة والانبا والليمون وغيرها إلى الدواخل تتخللها المنازل والمآذن وسواقي الأفلاج التي تتغذى من (منصح) ماء عذبا صافيا يروي الظامئ الغليل.أخذنا الطريق المعبد إلى وادي العق عبر العديد من القرى والواحات المتناثرة،والذي يشكل أحد أودية الخوض.ومنها إلى الفيحاء التي أطنب شعراؤها في التغزل بنهرها الخصيب وافلاجها الوفيرة وبساتينها الغناء ومجالسها العلمية ومعالمها الحضارية وتاريخها العريق وشخصياتها العلمية والأدبية والاجتماعية والتاريخية،ويكفيها فخرا أن ضم ترابها مثوى الصحابي الجليل مازن بن غضوبة.الطريق المعبد الذي يمرق بين الوادي والبساتين يربط بين الشارعين الرئيسين الشرقية والداخلية ويشق مناطق سمائل وأحيائها من الشرق إلى الغرب،ويشكل بحق طريقا سياحيا يجذب السياح إلى الولاية.من سمائل أخذنا طريق الداخلية إلى قرى وادي بني رواحة التي تتناثر على حافة الوادي،كانت الشلالات المنحدرة من قمم الجبل الأخضر تلقي بمياهها الغزيرة نحو السهل بعد أمطار غزيرة سقطت كما يبدوا في الأعالي،كان وادي السحاماة في حالة تشكل وتجمع،منطلقا بهديره وأمواجه التي ترتفع مع كل تقدم نحو ولاية سمائل،قفلنا راجعين مرورا بالجيلة فالفرفارة فإلى فنجاء مرة أخرى. بعد خمس ساعات على انطلاق الوادي الذي عبر سمائل – سرور – بدبد – فنجاء – استقر أخيرا في سد الخوض لتستفيد منه الخزانات الجوفية لعدة أشهر. جميع هذه الأودية والولايات والقرى والواحات الزراعية والمعالم الأثرية تشكل واحدة من أهم المقومات السياحية التي ينبغي العناية والاهتمام بها واستثمارها بما يعلي من مكانة هذا القطاع الحيوي والهام. وتحتاج إلى الكثير الكثير من الخدمات والتسهيلات،فهل نحن فاعلون ؟.