سعود بن علي الحارثي
” مناسبة طاهرة في مقاصدها غنية بمضامينها راقية في جواهر معانيها سامية في مفاهيمها إنسانية في شموليتها وفي أهدافها وفي انطلاقتها كيف لاوقد صيغت من أجل إصلاح البشرية وصيانة وإعمار سلوكها والارتقاء بمستوى أخلاقها وتعاملها والتواصل مع المنهج الحق والقدوة الصادقة والمدرسة العامرة بالعلم والمعرفة المستمدة جذورها من النبع القرآني والخلق المحمدي…”
ـــــــــــــــــــــ
في مثل هذا الأسبوع من مثل هذا الشهر لسنة ثلاث وخمسين قبل الهجرة أعلن الله كلمته من جديد , في استهلال هذا العربي الوليد ( أحمد حسن الزيات).
تنطلق أهمية المناسبة من الدور الحيوي الذي لعبته عبر التاريخ, وتزيدها الأيام ألقا وتكسبها أهمية فتتعمق مكانتها على ضوء ما تحرزه من نتائج ايجابية وما تقدمه من إنجازات رائدة وما تحدثه من تغييرات جوهرية في حياة الإنسان فتبقى المناسبة حية في النفوس لا يخفت شعاعها ولا تنطفئ شعلتها ولا تتراجع مكانتها حتى ولو لم يتم الاحتفاء بها بحسب العرف السنوي الذي اعتادت عليه الأمم وألفته الشعوب, فالمناسبات العظيمة التي تزهو بأمجادها وبركاتها والتي غيرت من واقع الأمم وشكلت مجرى جديدا للحياة وصاغت تاريخا مشرقا مليئا بالانجازات والطموحات والمفاخر والتغيرات الرائدة إنما تعيش في وجدان الإنسان لا تفارقه قيد أنملة وهذا النوع من المناسبات لا تضيف الاحتفائية إليها جديدا, فيبقى الاحتفال تعبيرا عما تجيش به النفوس من امتنان وحب للمناسبة ومفجر طاقاتها, هذه هي القاعدة الطبيعية لمناسبات بهذا القدر وهذه القيمة والمكانة في السمو والمنزلة والأثر وعلو الشأن, فأي مناسبة أجل وأعظم وأقدس وأعلى من مناسبة يعبر من خلالها المسلم عن يوم استثنائي في تاريخ الأمة غير من جوهر حياته وشكل أسلوب وطرق تفكيره وتعاملاته وأنار في قلبه شعاع العقيدة الإسلامية السمحة … مناسبة استثنائية هي الأروع والأعظم بلا منازع, كيف لا وهي تذكر بمولد خير البشر وسيد الخلق رمز هذه الأمة ومنقذها والقدوة الأول فيها, من اصطفاه خالق الكون إلى هداية وإصلاح خير خلقه الإنسان.
مناسبة طاهرة في مقاصدها غنية بمضامينها راقية في جواهر معانيها سامية في مفاهيمها إنسانية في شموليتها وفي أهدافها وفي انطلاقتها كيف لا وقد صيغت من أجل إصلاح البشرية وصيانة وإعمار سلوكها والارتقاء بمستوى أخلاقها وتعاملها والتواصل مع المنهج الحق والقدوة الصادقة والمدرسة العامرة بالعلم والمعرفة المستمدة جذورها من النبع القرآني والخلق المحمدي التي أورفت ظلالها وأينعت ثمارها فكان النتاج حضارة إسلامية أشرقت شموسها وأضاءت أنوارها على الإنسانية في وقت كانت عوامل البلى تنخر في هيكلة بنائها وأسس تكوينها من وثنية شائنة شلت من حركة الفكر وغيبت المدارك وطمست البصر والبصيرة , وجاهلية جهلاء استحكمت في العقل والروح والجسد ومادية أفسدت الخلق والقيم ونزعت المثل الراقية والصفات السامية من السلوك والمنهج الإنساني , فتلقت البشرية الحضارة المحمدية السمحة بالبشر والارتياح والترحاب الحار وبالطمأنينة الراسخة وفتحت مدنها وأراضيها للمبشرين الجدد الذين يحملون أوسمة الحرية وروح العدالة وثقافة الحوار ودعوة الخير والرحمة ومنهج حياة متكامل يمزج ما بين متطلبات الجسد والروح وبما يتناسب مع احتياجات وقدرات الإنسان …
من أقوال الرسول الأعظم محمد :
ـ ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع.
ـ اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام.
ـ لزوال الدنيا جميعا أهون على الله من دم سفك بغير حق.
ـ الساعي على الأرملة, والمسكين, كالمجاهد في سبيل الله, وكالذي يقوم الليل, ويصوم النهار …
ـ ما خففت عن خادمك من عمله فهو أجر لك.
ـ من سافر في طلب العلم كان مجاهدا في سبيل الله ومن مات وهو مسافر يطلب العلم كان شهيدا.
ـ ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشدهم .
هذه هي فلسفة الرسول وهذا هو منهجه في الحياة وهذا مبدأه الذي قضى حياته مدافعا ومجاهدا ومضحيا ومعلما من أجل أن يغرسه في الأمة قولا وعملا دون أن يتنازل عن جزء من جزئياته قيد أنملة برغم ما تعرض له من ترغيب وترهيب وتعذيب ومحن … لقد عاش حياته ووظف زمنه وباع راحته ودنياه من أجل سيادة العدالة والحرية والنظام والتمسك بالمبدأ واستعادة الحقوق ونصرة المظلوم , لقد حارب من أجل أن تبقى للإنسان إنسانيته وروحانيته وقيمه العظيمة بالكلمة المعبرة والموعظة الحسنة والعمل الصادق المقنع …
هذه هي ديمقراطية محمد وهذه هي عدالة الإسلام وهذه هي الحرية والرحمة والرأفة …تتجلى في كلمات مضيئة قالها نبي هذه الأمة وعمل بها خلفاؤه قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة فسادوا بها الأمم, وعندما تلاشت من فكرنا ولم يصبح لها أثر ملموس في سلوكنا وعملنا, حلقت فوق أرؤسنا الطائرات المغيرة وحاصرتنا الدبابات وانتهكت مقدساتنا وحرماتنا بدعوى أننا همج أعراب لا نتقن إلا فن الإرهاب ولا تحكمنا سوى الدكتاتورية فقدموا من أجل تحريرنا وتسييسنا ودمقرطتنا , ولأننا أصبحنا لا نتقن إلا فن الكلام والاحتفال بالمناسبات دون أن نقرأها ونفهم دروسها انتصرت علينا إسرائيل في جميع المعارك , ولأننا لم نعمل بالحكمة القائلة (( المثل العليا لن تستطيع أن تلمسها بيديك ولكنك كالمقاديم من البحارة تتخذها مرشدا لك وتتبعها فتبلغ غايتك )) لم نتمكن من التحرك إلى الأمام خطوة واحدة فلا نحن تمسكنا بمبادئنا وقيمنا وأصول ديننا , ولا نحن أخذنا بأسباب القوة والعلوم والإنجازات والتطور الذي تشهده دول وشعوب العالم, فبقينا أسرى للجهل والتخلف وصرنا مضغة للأعداء والطامعين.
وأخيرا فإنني لم أجد ما أختم به هذا المقال أفضل من بضع كلمات قالها مصطفى صادق الرافعي بهذه المناسبة (( وعجيب أن يجهل المسلمون حكمة ذكر النبيّ العظيم خمس مرات في الآذان كل يوم, ينادى باسمه الشريف ملء الجو, ثم حكمة ذكره في كل صلاة من الفريضة والسنة والنافلة, يهمس باسمه الكريم ملء النفس وهل الحكمة من ذلك إلا الفرض عليهم ألا ينقطعوا من نبيهم ولا يوما واحدا من التاريخ , ولا جزءا واحدا من اليوم , فيمتد الزمن مهما امتدّ والإسلام كأنه على أوله , وكأنه في يومه لا في دهر بعيد , والمسلم كأنه مع نبيه بين يديه تبعثه روح الرسالة ، ويسطع في نفسه إشراق النبوة , فيكون في أمره كالمسلم الأول الذي غيّر وجه الأرض , ويظهر هذا المسلم الأول بأخلاقه وفضائله وحميّته في كل بقعة من الدنيا مكان إنسان هذه البقعة , لاكما نرى اليوم ؛ فإن كلّ أرض إسلامية لا يكاد يظهر فيها إلا إنسانها التاريخي بجهله وخرافاته وما ورث من القدم , فهنا المسلم الفرعوني ، وفي ناحية المسلم الوثني , وفي بلد المسلم المجوسي , وفي جهة المسلم المعطل وما يريد الإسلام إلا نفس المسلم الإنسانيّ أيها المسلم لا تنقطع من نبيك العظيم، وعش فيه أبدا، واجعله مثلك الأعلى, وحين تتذكره في كل وقت فكن كأنك بين يديه, كن دائما كالمسلم الأول, كن دائما ابن المعجزة .