مُساعد المدعي العام / ناصر بن عبدالله الريامي
أولًا ـ البلاغ والإجراءات:
بتاريخ 7 أبريل 2019م، ورد إلى مركز الشرطة المختص مكانيًا، بلاغٌ من المجني عليها (ج.ف)، من إحدى دول الشرق الأقصى، يرافقها مندوبَينِ من سفارة بلدِها، مُفيدةً في بلاغها عن تعرُّضها لاستغلالٍ جنسيّ من قبل مجموعة من الأشخاص. وتوضيحًا لبلاغها، أفادت بأنها تعرَّضت للاستغلال من قِبلِ عصابةٍ وطنيةٍ، مُرتبطةً بأُخرى دولية في موطنها، بعد أن استغَلَّت الأخيرة حاجتها للعمل في الخارج، لتحسينِ مُستواها المعيشي، فأوهمتها بوجودِ فُرصةَ عملٍ لها في السلطنة، في مجالِ اختصاصها، وهو التدليكِ الطبيّ؛ وعندما وصلت البلد، استبان لها أن العمل الذي أُحضِرت لأجله، ما هو إلا مُمارسة الدّعارة. أردَفَت المجني عليها قائلةً: بأن محاولاتها المتكرِّرة لرفضِ هذا العمل، وإصرارها على العودةِ إلى موطنِها، باءَت بالفشل، وفق التفصيل الذي سنوضحه لاحقًا؛ فما كان منها، والحال كذلك، سِوى الاستنجاد بسفارةِ بلدها، بعد أن تحقَّق لها الوصول إليها بأعجوبةٍ، عقب تحايلها على حارس الشّقة التي قُيِّدَت فيها حُرّيتَها، وتمكَّنت بذلك من الهرب من شِباكِ العصابة، بعد أن نالت منها ومن كرامتها، بتعريضها للزبون الذي عبثَ بها.
ثانيًا ـ مرحلة جمع الاستدلالات:
إجراءات البحث والتحري عن المبَلَّغ عنهم، التي باشرها رجال الضبط والتحري، أسفرت مَبدئيًا عن الاشتباه في كلٍّ من: المتهم الأول (م.ج) عُماني، والمتهمة (س.ن) من جنسية المجني عليها، والمتهم (ع. س) عماني أيضًا؛ فتمّ في ضوء ذلك استصدار مُذكرات إلقاء القبض عليهم من الادِّعاء العام، وقبل الشروع في تنفيذِها، صادف وأن راجع المتهم الأول مركز الشرطة المختص مكانيًا، تُرافقه المتهمة (س.ن)، يُتابعان قضية فتياتٍ شرق آسيويات، مُتهمات بممارسة الدَّعارة، مجوزات في المركز، فتمّ إلقاء القبض عليهما فورًا، وأرسل استدعاءً عاجلًا للمجني عليها للحُضور إلى المركز، لغاياتِ التعرّف على المتهمَين؛ وقبل وصول المجني عليها، أُخضعت سيارة المتهم الأول، التي كانت مركونةً في مواقف المركز، فوجِدَ فيها المتهم الخامس (ع. ض) الذي كان قد صدر بشأنه أيضًا أمرًا بالقبض عليه؛ فنُفّذ الأمر فورًا؛ وبتفتيش السيارة، عُثر بداخلها على جواز سفر المجني عليها، وبعضًا من الملابس النسائية. وبوصولِ المجني عليها إلى المركز، وضع المتهمين الثلاثة في طابورٍ للتشخيص، كلٍّ على حِدة، وفقَ الأصولِ الإجرائيةِ المرعِيّة؛ فتمكَّنت المجني عليها من التعرُّف عليهم.
وبانتقال رجال الضّبط القضائي، ومعهم المتهم الأول (م.ج)، إلى الشّقة التي يأوي فيها الأخير المجني عليها وأُخريات، وجدوا بابها مُقفلًا بالمفتاح، وما أن فتحه المتهم، حتى وعُثرَ على المجني عليها الثانية، التي استنجدت بهم، فور إدراكها أنهم من رجال الضبط القضائي؛ فتمَّت تهدئتها وإفهامها أنهم سيستمعون إلى تفصيلات ما تودُّ البوح به في المركز.
هذا، وبإخضاعِ الشقة للتفتيش، عُثرَ على مجموعة علبٍ جديدةٍ من الواقي الذكري، وعقاقير طبية، ودفاتر حسابات، وهواتف نقالة، وسندات تحويلات مالية، وبطاقات بنكية، وفواتير الكهرباء ومياه، وفواتير دفع الانترنت، ثبت سدادها من قبل المتهم الأول؛ وسندات قبض عن إيجار الشقة، باسم المتهم الأول أيضًا، كما عثر على ملابس خاصة بالأخير، وبعض الأجهزة الكهربائية، مكتوب عليها اسمه.
أكّدت التحريات أيضًا قيام المتهم الأول باستخدام بطاقته البنكية، لغيرِ مرة، في دفعِ رسومِ التأشيراتِ السياحية لفتياتٍ من الشرق الأقصى.
ثالثًا ـ مرحلة التحقيق الابتدائي:
بالاستماع بدايةً إلى أقوال المجني عليها الأولى، تحت اليمينِ القانونية، جاءت إفادتها على النحو التالي:
حينما كانت في بلدها أخبرتها زميلتها في العمل بأنه توجد فرصة عملٍ في السَّلطنة، في مجال التدليك الطبيّ، وبراتبٍ مُغرٍ؛ وأوعزت إليها أن تتواصل بامرأة تلقّب بـ(بيبي)، التي ستتولى تخليص إجراءات سفرها، حال الرغبة في الاستفادة من هذه الفرصة. أفادت المجني عليها بأنها استحسنت الفكرة، وتواصلت فعلًا مع (بيبي)، ثم التقت بها لأجل الإحاطة بالتفاصيل، فوجدت عندها فتاتين اثنتين، علمت منها أنهما سيسافران معها للعمل ذاته؛ فطمأنتهنّ بشأن الراتب والامتيازات الأخرى التي ستحصلنّ عليها؛ وسلَّمتهنّ تذاكر السّفر، وأرسلت لهن عبر تطبيق الواتساب صورة الشخص الذي سيستقبلهنّ في مطار مسقط الدولي. يُذكر، فإنه اتّضحَ لاحقًا أن (بيبي) هذه التي تعمل على استقطاب الفتيات للاستغلال، هي المتهمة الثانية نفسها، وأنها تتنقل في العمل بين بلد المصدر، وبلد المقصد. أي أنها تتولى جانب التجنيد، ثم الادارة والاستغلال في وقتٍ لاحق.
وبوصولهنّ مطار مسقط، وجدنّ في استقبالهنّ الشخص الذي أرسلت صورته إلى هواتفهن المحمولة، فعمل على إيصالهن إلى شقةٍ في وسطِ المدينة، وفي الشقة وجدن فتيات أخريات من نفس جنسيتهنّ. وفي اليوم التالي حضر المتهم الأول (م.ج) إلى الشقة، واستلم منهن جوازات سفرهن، وسألته الضحية عن المركز الصحي الذي ستقدم فيه خبرتها في مجال التدليك الطبي؛ فكانت المفاجأة أنه لا وجود لنادٍ صِحيٍّ، وأن العمل المطلوب منها ومن زميلاتها تقديمه، هو إرضاء رغبات الزبائن الجنسية. رفضت الضحية من فورها العمل في الدعارة، وطلبت العودة إلى موطنها؛ فكانت الإجابة بأن الجوازات لن تُعاد إليهنّ؛ إلّا بعد أن تُسدِّد، كلّ منهنّ على حِدة، النفقات التي تكبّدوها لإحضارهنّ، مبلغًا وقدره ألف وخمسمائة ريال، ليُحق لهنّ، بعد ذلك، العودة إلى الوطن، أو العمل لحسابها الخاص. مُضيفةً إلى أنها ما أتت إلى السَّلطنة، إلا لحاجتها الماسة للمال؛ فاضطرت، إزاء ذلك، إلى الخروج ليلًا برفقة المتهمة الثالثة (من نفس جنسيتها) التي كانت تبيعهن إلى الزبائن المحتملين، وتستلم منهم الأجرة، وتسلّم الزبون الفتاة، ليأخذها إلى بيته أو إلى فندقٍ، أو إلى حيثُ يشاء.
وعن دور المتهمَين الرابع والخامس، أضافت قائلةً: أنهما يأتيان إلى الشقة بصفةٍ دائمة لتناول الكحول مع المتهم الأول، وأنهما يعلمان أنها مجبورة على ممارسة الدعارة؛ ويعلمان أيضًا بأن زميلهما الأول هو الذي يستغل دعارتها القسرية؛ وأنه يعمل في كثيرٍ من الأحيان على إيصالها إلى الزبائن، ويستلم منهم المقابل النقدي.
وأضافت الضحية قائلةً: إن الوضع استمرّ على هذا الحال لمدة شهرٍ كامِل، وأنها لم تجد من تلجأ إليه، كما أنها توجَّست خِيفةً من اللّجوء إلى الشرطة، تحسُّبًا لتحميلها المسؤولية القانونية عن فعل الدعارة الذي ما دخلت إليه إلا مُكرهة، فهي لا تعرف لغة البلد، كما أنها لا تعرف حكم القانون حيال ما فعلته، وإن كانت مُكرةً. وأكّدت المجني عليها بأن المتهم الأول (م.ج) هو المسؤول عن الشقة التي كانت تسكن فيها، وأن المتهمة الثالثة لم تكن لتسمح لها بمغادرة الشقة، إلّا لإيصالِها للزبائن.
وبالاستماع إلى أقوال الضحية الثانية، وهي من جنسية الأولى، جاءت إفادتها مُتفقةً، من حيثِ المضمون، وما أدلت به الأولى، من حيث أن العمل الذي عُرض عليها في موطنها كان عملًا شريفًا؛ وتحديدًا، في مجال التدليك الطبي، مُؤكّدةً أنها تواصلت عبر برنامج التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) مع المرأة التي استقطبتها في موطنها، بعد أن أوهمتها بأن الراتب المحدَّد للتدليك الطبي هو ألف ريال عُماني، لكلِّ شهر، وستحصل على امتيازات أخرى كثيرة، منها السّكن والمأكل والمشرب والنقل؛ وأنها لن تحتاج للراتب، إلّا للكمالياتِ الخاصة. وأضافت أنها سُلِّمت إلى جانب التذكرة مبلغًا من المال في ظرفٍ مُغلق، لأجل إبرازِه لضابط التأشيرات في مطار مسقط، الذي قد يطلب الوقوف على ملاءتها المالية قبل منحها التأشيرة السياحية.
تقول الضحية: إن المتهم الأول هو الذي استقبلهم في المطار، وفور ركوبها السيارة معه، تواصل هاتفيًا مع المرأة التي رتبت لسفرها في موطنها (بيبي)، فأبلغها المتهم بأن الفتاة وصلت وهي معه في السيارة؛ فطلبت (بيبي) التحدث إلى الضحيّة، فسلم المتهم الضحية الهاتف النقال للتحدّث مع (المعلمة)، فأوعزت إليها الأخيرة أن تسلم المبلغ للمتهم، ففعلت مثلما أُمرت. كما أكّدت بأن المتهم الأول سحب منها جواز سفرها، واعتقدت ـ آنئذٍ ـ أنه فعل ذلك لأجل إنهاء إجراءات الإقامة؛ لتفاجأ لاحقًا أن عليها العمل في الدعارة، إلى أن تسدد للعصابة المبلغ المذكور ألف وخمسمائة ريال. تؤكّد الضحية بأنها، وبعد أن قدّمت خدماتها الجنسية مُكرهةً، لأول زبائنها؛ تواصلت، من فورها، بزوجها في موطنها، الذي أشار عليها أن تلجأ إلى السفارة، وأن الأخيرة ستتكفّل بإبلاغ السّلطات عن العصابة. ففعلت ذلك، بعد أن احتالت على المتهمة الثالثة للخروج من الشقة.
هذا، وباستجواب المتهم الأول (م.ج)، أنكر بدايةً، جملةً وتفصيلًا، أن تكون له أية علاقة فيما ادعته الضحيّتان؛ وبمواجهته بالأدلة القائمة ضده، اعترف بالاتجار بهما، مستغلًا قلة حيلتهما، وحاجتهما للمال؛ مؤكّدًا أن بينه والمرأة التي عملت على استقطاب الضحايا في موطنهن (بيبي) اتفاق على مُسبّق على الاتجار بالفتيات، وأن هذه الأخيرة هي نفسها المتهمة الثانية (س.ف)؛ كما اعترف أيضًا بقيامه بتحويلات مالية عديدة لمصلحتها، وأن تلك المبالغ ناتجة من جرّاء مُمارسة الفتيات للدعارة، وأنه هو من يستلم تلك المبالغ منهنّ. وأكّد بأنه هو من استقبل الضحية في المطار، وكان برفقته المتهمين الرابع والخامس، اللذين يعلمان علمًا تامًا بمسألة استغلال الضحايا في الأعمال الجنسية.
كما أن المتهم الرابع (ش.ح)، أقرّ في استجوابه أنه كان على علم بأن الفتيات اللائي يستقبلهن هو والمتهم الأول (م.ج)، والخامس (ع.ض) أُحضرن لأجل استغلالهن جنسيًا، بعد أن أوهِمنَ بأنهن سيعملن في التدليك؛ مؤكّدًا أن المتهمين الأول والثانية هما اللذان يستغلان الفتيات وحاجتهن للمال. وأن الثانية تتنقل بين مسقط ودولة المصدر، وهي التي تعمل على استقطاب الفتيات للعمل في السَّلطنة، وهي التي تُلقَب بـ(بيبي)؛ مؤكّدًا أن المتهم الأول يحول المبالغ التي يجنيها من الفتيات إلى حساب المتهمة الثانية في دولة المصدر.
الاعترافات نفسها انسحبت على المتهم الخامس (ع.ض)، الذي جاءت اعترافاته متفقة من حيث المضمون وما جاء في اعترافات الرابع؛ مؤكّدًا أن المتهم الأول يعمل حسب التوجيهات التي ترده من صديقته المتهمة الثانية في دولة المصدر، حيث تتصل به هاتفيًا لاستقبال فتيات في أيامٍ مُحددة، وترسل له صور الفتيات عبر الواتساب. وأكّد علمه بأن المتهم الأول، وصديقته المتهمة الثانية، يحضران تلكم الفتيات إلى السّلطنة بالحيلة، لأجل استغلالهن في أعمال الدعارة.
رابعًا ـ قرار الادعاء العام:
بعد الانتهاء من التحقيقات، وحيث قطعت أدلة الإثبات، جزمًا ويقينًا، بأن المتهم الأول، وإلى جانب اقترافه جناية الاتجار بالبشر (استغلال دعارة الضحيتين)، اقترف جناية غسل الأموال، هو والمتهمة الثانية، وفق ما يؤكّده التقرير الفني لفحص بطاقات الصرف الآلي المضبوطة، وفحص المعاملات المالية لهما، المعد من قبل المركز الوطني للمعلومات المالية، والذي خلص إلى قيام المتهم بتحويل أموال لحساب المتهمة الثانية في موطنها، على دفعاتٍ متفاوتة، بلغت في مجملها مبلغًا وقدره تسعة آلاف وثمانية وسبعون ريالًا عُمَانيًا.
كما أن التحليلات المالية أكّدت أن متوسط حركة الأموال الشهرية، الواردة لحساب المتهم الأول، بلغت ما يقارب (720) ريالًا عُمانيًا، مجهولة المصدر، وهو ما يُعزز عمله في مجالٍ غير مشروع؛ ويرجَّح، والحال كذلك، أن يكون من نتاج استغلال دعارة المجني عليهما، المرتبطتين بالقضية الماثلة، وغيرهما في حالاتٍ أخرى.
وعليه، قرَّر الادِّعاء العام إحالة المتهمِين جميعًا إلى محكمة الجنايات، وفق التفصيل التالي:
بالنسبة للمتهمَين الأول والثانية:
اتَّجرا بالمجني عليهما، عبر الحدود الوطنية، بغرض الاستغلال الجنسي، وذلك بأن أجريا الترتيبات اللازمة لنقلهما من موطنهما، بعد أن أوهمتهما الثانية بحصولهما على عملٍ شريفٍ، في مجال التدليك الطبي؛ فآوياهما في شقةٍ، وأجبراهما على العمل في الدعارة؛ مُستغلين بذلك قلَّة حيلتهما، واستضعافهما، وفق الثابت في التحقيقات.
بالنسبة للمتهمة الثالثة:
اتَّجرت بالمجني عليهما، المذكورتين في الوصف أولًا، وذلك بأن عملت على تسهيل امتهانهما الدعارة التجارية القسرية، من خلال قيامها بدور الوساطة، بينهما والزبائن، مُستغلةً بذلك حالة استضعافهما، وفق البيِّن في التحقيقات.
بالنسبة للمتهمين الرابع والخامس:
عَلِمَا بجريمة الإتجار بالبشر الواردة في بند الاتهام أولًا، ولم يُقدِما على إبلاغ السُّلطات المختصة بذلك، وفق الثابت تفصيلًا بأوراقِ الدَّعوى، واعترافهما الصّريح في التحقيقات.
بالنسبة للمتهمين الأول والثانية أيضًا:
غَسَلا أموالًا غيرِ مشروعةِ المصدر، مُتحصلًا عليها من جناية الإتجار بالبشر، وذلك بأن حاز المتهم الأول تلك الأموال وحوّل جزءًا منها لمصلحة المتهمة الثانية في موطنها، عبر محلَّات الصِّرافة، بقصد إخفاء وتمويه طبيعة ومصدر تلك العائدات، وفق الثابت بالتحقيقات.
وبناءً عـليه، يكون المتهمون من الأول حتى الثالثة قد قارفوا جناية (الإتجار بالبشر)، المؤثمة بنص المادة (9/ج) من قانون مكافحة الإتجار بالبشر.
ويكون المتهمان الرابع والخامس قد قارفا جنحة (عدم إبلاغ السُّلطات بجريمة الإتجار بالبشر بعد العلم بارتكابها)، المؤثمة بالمادة (11) من قانون مكافحة الإتجار بالبشر.
ويكون المتهمان الأول والثانية قد قارفا أيضًا جناية (غسل الأموال) المؤثمة المادة (88/أ) بدلالة المادة (6/أ/ج) من قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
لذلك تقرر: إحالة المتهمين إلى محكمة الجنايات المختصة مكانيًا لمحاكمة المتهمين طبقًا للقيود والأوصاف الواردة بقرار الإحالة، ومصادرة الأموال والوسائل والمركبة التي استخدمت في ارتكاب الجريمة، استنادًا للمادة (14) من قانون مكافحة الإتجار بالبشر، وإبعاد المتهمتين الثانية والثالثة عن البلاد استنادًا للمادة (60) من قانون الجزاء.
خامسًا ـ أمام محكمة الجنايات:
نُظرت القضية في جلساتٍ عِدّة، ترافع خلالها الادِّعاء العام بدايةً، كما استعرض قائمة بأدلة الثبوت؛ ثم استمعت المحكمة إلى أقوال المتهمين، قبل إتاحة الفرصة لوكلاء الدفاع، الذين ناقشوا الشهود وكذا الخبراء، بحريةٍ تامة، تحقيقًا لرسالتهم المقدسةِ في الدفاع.
هذا، وبعد أن اطمأنّت المحكمة إلى أدلة الثبوت، وارتسمت في وجدانها صورة ذهنية واضحة المعالم، استخلصتها من مخرجات التحقيقات، مُؤدّاها أن المتهمين الأول والثانية أجريا الترتيبات اللازمة لنقل المجني عليهما من موطنهما، بعد أن أوهمتهما الثانية بأنهما سيعملان في مجال التدليك الطبي؛ ثم أجبراهما على العمل في الدعارة، مُستغلين حالة الاستضعاف لديهما؛ كما أن المتهمة الثالثة أيضًا اتجرت بالمجني عليهما، وذلك بقيامها بدور الوساطة بين الدعارة القصرية المفروضة عليهما، والزبائن الراغبين في شراء الخدمات الجنسية. ورغم أن المتهم الأول تراجع عن اعترافاته السّابقة؛ إلا أن المحكمة، وبالنظر إلى الجمّ الغفير من الأدلة القائمة ضدّه، التفتت عن انكاره، ولم تقم له وزنًا، بعد أن عَدّته ضربًا من ضُروب محاولات التنصُّل من المسؤولية، والإفلات من العقاب.
أما عن جريمة غسل الأموال، فلقد خلصت المحكمة إلى أن التقرير الفني للتحليلات المالية، لم يقطع بصفةٍ جليةٍ قيام أوجه غسل الأموال، وفق ما جاء في حكم المادة (6) من قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب؛ وهو ما يجعلها تقضي بالبراءة في هذه التهمة، إعمالًا لمقتضيات المادة (217) من قانون الإجراءات الجزائية.
أما عن جنحة العلم بوقوع جناية الاتجار بالبشر، دون الإبلاغ عنها، فلقد وقَرَ في يقين المحكمة وقناعتها، بما لا يدع مجالاً للشك، بأن المتهمَين الرابع والخامس كانا عالمينِ فعلًا بتعرُّض المجني عليهما للاتجار بهما، واقعًا وقانونًا، وذلك من واقع المشاهدة لحجز المجني عليهما في الشقة، وإجبارهما على ممارسة الدعارة؛ وإقرارهما بأنهما كانا عالمين بأن المجني عليهما تم استقطابهما بالخداع، بعد أن أوهمتهما الثانية بالعمل في التدليك، خلافًا للحقيقة.
سادسًا ـ حكم محكمة الجنايات:
ترتيبًا على ما تقدم، وبالبناء عليه، حكمت المحكمة حضوريًا في مواجهة المتهمِين الأول والثالثة والرابع والخامس؛ وغيابيًا في مواجهة المتهمة الثانية، بالآتي:
بإدانة الأول والثانية والثالثة بجناية الاتجار بالبشر، وفق المادة (8) من القانون، ومعاقبة الأول والثالثة بالسّجن لمدة ثلاث سنوات، والغرامة خمسة آلاف ريال؛ ومعاقبة المتهمة الثانية بالسّجن لمدة خمس سنوات، وغرامتها عشرة آلاف ريال، وإدانة الرابع والخامس بجنحة الامتناع عن الإبلاغ عن جناية الاتجار بالبشر، رغم العلم بوقوعها، وقضت بسجنهما لمدة ستة أشهر، وتغريمها ثلاثمائة ريال؛ وبراءة الأول والثانية من جناية غسل الأموال.
يُذكر، فإن المتهمة الثانية لم يطلها التحقيق، حيث أنها، وحسب الإشارةِ المتقدمة، تتنقل بين السَّلطنة وبلد المصدر؛ فكانت، وقت القبض على المتهمين، خارج البد. ومع ذلك، تم التنسيق مع بلد المصدر، عبر إدارة التعاون الإقليمي والدولي، التابع للادِّعاء العام، لأجل محاكمتها في موطنها؛ كما تمت موافاة السُّلطات القضائية لديهم، بالحكم بعد أن بلغ الدرجة القطعية، لإجراءاتهم.
سابعًا ـ أمام المحكمة العليا:
لم يرتضِ الادِّعاء العام بحكم البراءة في جناية غسلِ الأموال؛ فطعن فيه بالنقض أمام المحكمة العليا، نعى على الحكم المطعون فيه بالبطلان والخطأ في تطبيق القانون، والفساد في الاستدلال، حينما قضى بالبراءة من جناية غسل الأموال، لعدم ثبوت الصلة المباشرة بين التحويلات المصرفية وجريمة الاتجار بالبشر؛ بينما الثابت يقطع يقينًا، وباعتراف صريح من المطعون ضده الأول بأنه كان يحول الأموال المتحصلة من الدعارة القصرية التي مارستها المجني عليهما، لمصلحة المطعون ضدها الثانية في موطنها؛ وهو ما يوجد تناقضًا في الحكم بين الإدانة في الاتجار بالبشر، والبراءة في غسل الأموال، رغم الارتباط الواضح بينهما.
هذا، ولقد رأت المحكمة العليا أن مجموعة التحويلات المصرفية الثابتة التي ثبت قيام المطعون ضدّه الأول بتحويلها لمصلحة الثانية، وثبوت علم الأول بأنها من عائدات ممارسات المجني عليهما لأعمال الدعارة؛ عدا عن قيام الأول بتحويلات مشبوهة أخرى لمصلحة فتيات أخريات في الخارج، في بلد المصدر نفسه؛ تتّفق وحقيقة اقترافه لجناية غسل الأموال.
وعليه، قالت المحكمة العليا الآتي:(لما كان ذلك، ولئن كان تقدير ووزن أدلة الدعوى يخضع للسلطة التقديرية لمحكمة الموضوع؛ ألا أن ذلك مشروط بأن تكون قد ألمّت بواقعة الدعوى، وحققت لأدلتها، واستوعبتها بما يرد كل تجهيلٍ بها، وأن يكون تسبيبها سائغًا ومقبولًا، عقلًا ومنطقًا. وحيث أن هذا أورده الحكم تسبيبًا لقضائه ببراءة المطعون ضدّهما لا ينبئ عن حسن استيعاب الاتهام الموجّه للمطعون ضدهما، بموجب جناية غسل الأموال، بل أن سماع الدعوى، والتحقيق فيها أغفل هذه الجناية؛ لذا، جاء الحكم غير مُعبّر عمّا هو واجب على المحكمة في تحقيق الدعوى، وتسبيب الحكم فيها؛ الأمر الذي يتعيّن معه نقض الحكم المطعون فيه، فيما قضى به من براءة المطعون ضدّهما من جناية غسل الأموال، وإعادة أوراق الدعوى إلى المحكمة التي أصدرته، لتفصل فيها من جديد، بهيئةٍ مُغايرة).
ثامنًا ـ كلمة الاختتام:
في الوقت الذي لا تزال فيه القضية تُتداول أمام عدالة الهيئةِ المغايرة، ومن المقرَّر أن يصدر الحكم فيها قبل الانتهاء من الشهر الجاري؛ نشيرُ، في خاتمة هذا العرض، إلى أن المشرع أحاط حقوق الإنسان بسياجٍ مَتينٍ من الضمانات، للحيلولة دون انتهاكِها؛ ومن ذلك أن جرّم كلّ من علم بوقوع جريمة الاتجار بالبشر على آحادِ الناس، ولم يُبادر بإبلاغ السُّلطات، ولو كان مُؤتمنًا بسرٍ مهنيّ، كما هو الحال مع الأطباء؛ وأوجد عقوبةَ السّجن للمُمتنع عن الإبلاغ، تصل إلى ثلاثِ سنوات سجن؛ وغرامة تصل إلى ألف ريال عُماني.
المصدر: اخبار جريدة الوطن