وكيل ادعاء عام أول/ خالد بن موسى الصوافي
أولًا ـ البلاغ والاستدلالات:
تلقى المركز المختص مَكانيًا بلاغًا من قبل المدعو (س ص)، مُفيدًا في بلاغِه عن تعرُّضه للابتزاز من قبل المتهم (ق ل). هذا، وبالوقوف على تفصيلات البلاغ من قبل رجال الشرطة أفاد المبلغ ـ استدلالًا ـ أنه كان قد تعرَّف إلى فتاة، عبر برنامج التواصل الاجتماعي (وي شات)، المعروف بـ(We chat)، وأنه اعتقدها كذلك، بالنظر إلى اسم المعرّف المستخدم، ناهيك عن العبارة الواردة تحت اسم المعرّف، والتي تُقرأ على النحو الآتي:(فتاة تبحث عن مُمارسة الجنس). أردف المبلِّغ في تفصيلات إفادته بالقول: أنه تواصل معها عبر الدردشة، وأنها أخذت تستدرجه، شيئًا فشيئًا في النقاشات الجنسية المثيرة للشهوة، وما أن لاحظت عليه وقد ذاب في أَسرِ الرغبة في التواصل معها جنسيًا، حتى وتظاهرت باشتياقها في النظر إلى عضوه التناسلي، فطلبت منه أن يُصوّره لها، وأن يُصور نفسه بالكامل وهو عارٍ من ملابسه، ويرسل لها الصور عبر الواتساب، لإشباع غريزتها، بشكلٍ مُؤقّت، إلى حين اللقاء الفعلي بينهما. استرسل المبلّغ في إفادته قائلًا، وهو مُنكِّس الرأس خجلاً وندمًا: للأسف، وبسبب فُقداني للإدراك والإحساس بالمسؤولية، فعلت ما طلبته مني، بعد أن زوَّدتني برقم التواصل معها.
هذا، ولقد أضاف المبلغ في شهادته قائِلًا: وبعد أن أرسلت الصور، ورد لي اتصال هاتفيّ من رقم لا أعرفه، اتّضحَ لي لاحقًا أنه المتهم، حيث ادّعى بأنه أخ الفتاة المزعومة التي أرسل لها الصُّور، وكانت نبرات صوته عندئذٍ يتطاير منها الشرر، من شدّة الغضب والحنق المفتعلين، زاعمًا المتهم بأنه، وبفعلته الدنيئة تلك، تسبَّب في إحداثِ شرخٍ كبير في العلاقة بين أخته وزوجها، وأن حياتها الزوجية أضحت في مهبّ الريح.
ولأجل تسوية الأمر، اقترح عليه المتهم أن يوقَّع على نفسه صك دين رسميّ لدى إدارة الكاتب بالعدل لمصلحته، أيّ لمصلحة المتهم، فما كان من المجني عليه، إزاء حالةِ الخوف والهلع من المسؤوليةِ والفضيحة، إلّا أن وافق على طلبه، ظنًا منه بأنه سيتخلّص من تلك الكبوة التي سقط فيها، فاتفقا على اللقاء في مكان ما، وبلقائهما اعتذر المبلغ من المتهم على ما بدر منه تُجاه أخته، وتوجها سويًا إلى دائرة الكاتب بالعدل، وكتبَ على نفسِه صكّ دين للمتهم بمبلغٍ وقدره (ثلاثة آلاف) ريال عُماني.
وبخروجهما من دائرة الكاتب بالعدل، يقول المبلغ بأن المتهم أخذ يتحدّث معه في أُمورٍ جنسية، لم يتوقعها منه؛ ومع ذلك، لم يفترض فيه السوء، بعد أن أوهمه بأنه ارتاح للحديث معه ولطيبته واحترامه، وتتويجًا لكلامه الأخير هذا، طلب المتهم من المبلغ استمرار التواصل بينهما. وفي لقائهما الثاني، حاول المتهم التحرُّش في المجني عليه، وطلب منه صراحة تمكينه من ممارسة الفجور به، مُقابل إلغاء صك الدين.
استرسل المبلغ في شهادتِه قائِلاً: عندئذٍ فقط، علمَ بأنه وقعَ ضحيةَ تغريرٍ وابتزاز من المتهم، وأنه لا وجود أصلاً لفتاةٍ في القضية الماثلة، وأن المتهم انتحل اسم فتاة فقط للإيقاع به في شباكِه، فقرّر ألا يستمر في الانجرار لدناءات المتهم، وإن كان ثمرة ذلك استرداد ما أخذ منه بالحيلة، وقرّر بدلاً من ذلك إبلاغ مركز الشرطة المختص مكانيًا.
باشر المركز فور ذلك إجراءات جمع الاستدلالات اللازمة، ومن ذلك تحريز هاتف المبلغ، تمهيدًا لاستخراج المحادثات بينه والمتهم، كما تمّ القبض على المتهم، وتحريز هواتفه النقالة أيضًا؛ فتمسَّك الأخير بالإنكار.
هذا، ولقد وقفت الضبطية القضائية على أن المتهم دائبٌ على هذا الفعل، إذ استعمل الفعل ذاته مع ضحايا آخرين، مُتّبعًا الأسلوب الجُرمي عينه، حيث تجاوزت قيمة صكوك الدّين المبرمة له بمبلغ (ثلاثين) ألف ريال عُماني، فأُحيلت القضية إلى الادِّعاء العام.
ثانيًا ـ التحقيق والاستجواب:
ــ باستجواب المتهم أصرَّ على إنكاره، بالرغم من محاصرته بالأدلة، وتم تفريغ محتويات الهواتف ذات العلاقة بالدعوى، والتي وثقت بعض عناصر الجريمة؛ كما تمت مخاطبة جهات الاختصاص عن صكوك الدين المبرمة لمصلحته.
ــ هذا، وبالاستماع إلى تفصيلات أقوال المبلغ، واعترافه بإرساله صور خليعة لنفسه، عبر وسيلة من وسائل تقنية المعلومات؛ استقرت القناعة إلى ضرورة ادخاله متهم في الدعوى، لثبوت فعلته تلك.
ثالثًا ـ التصرف في الدعوى والحكم:
بعد انتهاء إجراءات التحقيق، أُحيل ملف الدعوى إلى محكمة الجنايات المختصة مكانيًا، وطالب الادِّعاء العام مُعاقبة المتهم الأول (س ص) بجنحة (نشر صور خليعة مخالفة للنظام العام)، المجرّمة بنص المادة (19) من قانون مُكافحة جرائم تقنية المعلومات؛ ومعاقبة المتهم الثاني (ق ل) بجناية (استخدام وسيلة من وسائل تقنية المعلومات في تهديد المتهم الأول لحمله على القيام بأمور مُخلة بالشرف)، المؤثمة بنص المادة (18) من القانون ذاته، وجنحة (تحريض المتهم الأول على نشر صور خليعة) المؤثمة بنص المادة (31) من القانون ذاته.
رابعًا ـ حكم المحكمة:
وبعد نظر القضية في عدة جلسات، وقفت فيها المحكمة على أدق تفاصيل الواقعة؛ فقضت بإدانة المتهم الثاني بجناية التهديد بإسناد أمور مخلة بالشرف باستخدام وسيلة تقنية المعلومات، وبجنحة التحريض على نشر الصور الخليعة، المخالفة للنظام العام، وقضت عليه عن الجناية بالسّجن مدة سنتين والغرامة ثلاثة آلاف ريال، وعن الجنحة بالسّجن مدة شهر والغرامة مائة ريال، تدغم العقوبتين قبله، الأخف في الأشد، وينفذ الأشد منها، ومصادرة الهواتف المضبوطة للصالح العام؛ كما قضت بإدانة المتهم الأول بجنحة استخدام وسيلة تقنية المعلومات لنشر صور خليعة، بالمخالفة للنظام العام، وقضت بإعفائه من العقاب، لإبلاغه السُّلطات المختصة قبل الكشف عن الجريمة).
لم يرتضِ المتهم الثاني هذا القضاء فطعن فيه بالنقض أمام المحكمة العليا، التي قضت في جلستها العلنية بقبول الطعن شكلاً، ورفضه موضوعًا، وإلزام الطاعن المصروفات.
خامسًا ـ نهجٌ تشريعيٌ محمود:
من بابِ تشجيعِ المشرّع الجزائي، لكلِّ من زلَّت أقدامهم، وسقطت في شباكِ اقتراف الجرائم، على التراجُع عن موقفهم الإجراميِّ بالإبلاغ، رغم وقوع الجريمة، بكاملِ أركانها، فقد تبنّى المشرع في المادة (33) من قانونِ مُكافحة جرائم تقنيةِ المعلومات، رقم:(12/ 2011)، ذلك التوجُّه الذي انتهجَه في قانون الجزاء، بإعفاء مُرتكب الجريمة من العقاب، إذا ما بادر بإبلاغ السُّلطات المختصة بمُلاحقةِ الجرائم، عن الجريمة المقترفة قبل الكشف عنها. لم ينتهِ الأمر عند هذا الحد؛ وإنما، يستمرُّ المشرع في ترك مجال الاستفادة من الإعفاء من العقوبة مفتوحًا أمام الجاني، رغم وصول عِلم الجريمة إلى السُّلطات؛ إذا أدلى بمعلوماتٍ، بعد الكشف عن الجريمة، وأدّت إلى ضبط الجُناة. وعليه، فالفرق بين الحالتين يكمُن في أنَّ الإعفاء من العقاب في الحالةِ الأولى وجوبية على المحكمة؛ بينما جوازية في الحالة الثانية، إذا تحقَّق الشّرط المتمثل في ضبط باقي الجُناة.
حَريٌّ بنا، قبل الختام، أن نشيرُ إلى أنه، وحسب الإشارةِ المتقدِّمة، فإن هذه السّياسة التشريعية، القائمة على تشجيعِ الجاني على التراجع عن موقفَهُ الإجراميّ، خدمةً للعدالة، مُقابل الإعفاء عن العقوبة؛ انتهجها المشرّع الجزائيّ في الجرائم التالية: أمنِ الدولة وفق مُقتضيات المادة:(93/1) من قانون الجزاء، وتزييف العُملات والسَّندات المالية وِفقَ مُوجبات المادة:(180)، والرشوة حسب المادة (212)، وشهادة الزور بالاستناد للمادة (234)، والجرائم التي تمس الدين والأسرة والمجتمع وفق ما جاء في المادة (274) من قانون الجزاء.
سادساً ـ كلمة الاختتام:
ختامًا، فإن الادِّعاء العام يهيبُ بكلِّ من زلَّت قدمه إلى اقتراف الجريمة، أن يعدل عن موقفه الإجرامي، بإبلاغ السُّلطة المختصة؛ فباب التراجع سيبقى دائمًا مفتوحًا أمامهم؛ وإن تمّ الكشف عن الجريمة؛ بل، وإن لم تؤدِّ المعلومات التي أدلى بها، عقب الكشف عن الجريمة، إلى ضبط الجناة، كما ورد في النصوص أعلاه؛ إذ سيبقى أمام القضاء باب الأخذ بالأسباب القضائية المخفّفة للعقوبة مفتوحًا؛ بل، وللمحكمة أن تنزل عن الحد الأدنى المقرر للعقوبة، وفق ما جاء في المادة (81) من قانون الجزاء، بدلالة المادة (79/د) من القانون ذاته؛ بل وللمحكمة أيضًا، وفق مقتضيات المادة (71) من القانون، أن تقرِّر وقف تنفيذ العقوبة التي تقل عن (ثلاثِ) سنوات سجن، إذا رأت من أخلاق المحكوم عليه، أو ماضيه، أو سنه، أو ظروف اقتراف الجرم، ما يبعث على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى الاجرام.
وعليه، نُؤكّد هاهنا أنه لا خسارة من الرجوع إلى الحق، والإقرار بالذّنب؛ بل فيه كسب عظيم للنفس. وعلى المذنب أن يتذكّر دائمًا مقولة:(إذا كان الكذب ينجي، فالصدق أنجى).
لا تخضع للابتزاز
✱ نقّح القضية، وراجعها للنشر الصَّحفي مُساعد المدَّعي العام / ناصر بن عبدالله الريامي.
المصدر: اخبار جريدة الوطن