احدث الاخبار
أنت هنا: الرئيسية / اخبار جريدة الوطن / بيدكم الأمر

بيدكم الأمر

د. أحمد مصطفى أحمد:
أما وقد بدأ العالم في تخفيف إجراءات الإغلاق وقيود الحركة والنشاط التي فرضت للسيطرة على وباء فيروس كورونا (كوفيد ـ19) فها نحن ندخل مرحلة “التعايش مع الفيروس”. صحيح أن أحد الأسباب الرئيسية لتخفيف الحظر هو الضرر الهائل الذي أصاب الاقتصاد وتعطيل مصالح الناس وخسائر الاقتصاد العالمي تريليونات الدولارات، لكن هناك أسبابا أخرى قد لا تقل أهمية، في مقدمتها الصحة النفسية للناس. فحرمان مئات ملايين البشر من التواصل “الطبيعي” الذي اعتادوا عليه وممارسة حياتهم بما يعتبرونه “الوضع العادي” له أضراره النفسية والعقلية التي قد تتطور لدى البعض لتكون مثل أضرار الفيروس الصحية أو أكثر. أضف إلى ذلك أن التبعات الاقتصادية السلبية، بمعنى تعطل أعمال البشر وفقدان البعض لعملهم ومصادر رزقهم، إضافة إلى عدم اليقين المحيط بالمستقبل في ظل الوباء يؤدي إلى أمراض نفسية عصيبة.
وهكذا، لم يكن ممكنا الاستمرار في إجراءات الإغلاق والحظر للحد من انتشار الفيروس أو انتظار التوصل إلى لقاح أو علاج. نعم، تلك القيود ساهمت في تقليل أعداد الإصابات والوفيات التي كان يمكن أن تكون أضعافا بالنظر إلى سرعة انتشار عدوى الفيروس وشراسته وتأثيره الفتاك على أجسام بعض المصابين. لكن استمرارها بعد بضعة شهور يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية. ثم هناك عامل مهم جدا، وهو أن الناس أدركت بالفعل خطورة الوباء وبدأت تعتاد على إجراءات الحماية والوقاية، ولا شك في أن أغلبها سيستمر ملتزما بها حتى بعد تخفيف القيود وعودة الحياة إلى الوضع “الطبيعي المستجد”. ثم إن التجمعات البشرية الآن على وشك الدخول في مرحلة مهمة، وبرأيي حاسمة في مواجهة الفيروس، هي مرحلة تراكم المناعة الطبيعية في أجسام من يصابون به ولا تظهر عليهم أعراض أو تؤدي إصابتهم إلى أعراض خفيفة أو معتدلة تزول بعد فترة قصيرة دون حاجة لعلاج.
بدون تهكم، تلك “مناعة القطيع” في الصحة العامة التي تعني حين يكون لدى حوالي ثلث جماعة بشرية أجسام مضادة لمقاومة الفيروس تستطيع الجماعة كاملة تفادي الوباء. ورغم أن بداية فتح الاقتصاد والأعمال وتخفيف إجراءات الحظر ليس بسبب هذا المستهدف بالنسبة للصحة العامة ومناعة الجماعة إلا أنه نتيجة جانبية مهمة على أي حال. بالطبع هناك من يرى أن الوقت ما زال مبكرا لإلغاء إجراءات الوقاية وقيود حركة البشر المفروضة منذ أسابيع، وربما يكون ذلك مفهوما في بلاد ومناطق معينة ما زالت تعاني من معدل تفشٍّ للوباء يتطلب استمرار إجراءات الحد من الانتشار. لذا، نجد تخفيف الإجراءات تدريجيا يتم بمعدلات متباينة في مختلف الدول وحتى المناطق داخل الدول. إنما هؤلاء الحريصون على مواجهة الوباء الذين ربما يغالون في إجراءات الوقاية أقل ضررا من غيرهم ممن يستهينون بالوباء بالأساس وتريحهم تفسيرات نظريات المؤامرة.
هؤلاء يلجؤون مرة أخرى إلى ليِّ الحقائق، إذ يحاجج البعض يأن الحكومات والسلطات فعلت كل ما يمكنها ولم تعد قادرة على فعل المزيد فقررت أن تترك الأمر للناس أنفسهم كي يتدبروا أمرهم. المشكلة أن هؤلاء في أغلبهم ممن اعتادوا الشك في كل ما يأتي من السلطة وأحيانا يميلون للانتقاد والمعارضة بشكل غير إيجابي ولا بناء. صحيح أن المرحلة القادمة تعني زيادة مسؤولية الجماهير في مكافحة الوباء، لكن ذلك ليس معناه أن السلطات تتخلى عن مسؤوليتها. نعم، الآن يقال لنا “بيدكم الأمر”، لكن مع مراعاة كل الإجراءات والنصائح التي فرضتها السلطات وتراجعها وتعدلها كل فترة. لم يعد الأمر الآن بيد السلطات فحسب، وهو لم يكن تماما حتى في عز تفشي الوباء. فقيود الإغلاق ما كانت لتؤتي نتائجها المرجوة ما لم يكن الناس استجابوا لها. ولم تكن الاستجابة بسبب عقوبات فرض الإجراءات أو حتى الخوف الذي استبد بالناس من الإصابة بالفيروس. إنما كانت الاستجابة تعبيرا عن مسؤولية ونضج الجماهير في تعاونها مع حكوماتها لمواجهة خط مشترك يهدد الجميع.
بالطبع كان من أهداف إجراءات الإغلاق الحيلولة دون “إغراق” النظام الصحي بأعداد مهولة من الحالات تؤدي إلى انهياره. لكن تلك ليست سياسة حكومية ضد الناس أو تتغاضى عن الحرص على صحتهم، بل على العكس هدفها هو جعل النظم الصحية قادرة على معالجتهم في حال احتاجوها. ولم يكن ذلك وقت مناقشة مدى الإنفاق من الميزانية على قطاع الصحة وغيره، رغم أهمية ذلك بالطبع، لكن في الحالات الحرجة تكون أمام أمر واقع وعلى السلطات تدبر الطريقة الأمثل للتعامل معه. وأيضا لا يعني ترك أمر الحماية والوقاية بيد الناس أن السلطات تتخلى عن مسؤولياتها، فهي التي تضع القواعد لعودة النشاط البشري استنادا إلى نصائح العلم والطب المبنية على نتائج ما هو معروف حتى الآن بشأن الفيروس المسبب للوباء.
ما زال الوباء مشكلة عالمية، وليس من المفيد إطلاقا اللجوء لتفسيرات تآمرية أو الشطط في المعارضة والانتقاد أو الاستسهال في التعامل مع الوضع بما أن الأمر أصبح “بيدنا”. فخطر خروج الوضع عن السيطرة وخسارة الأرواح وزيادة العلل لم ينتهِ بعد، وسيظل التعاون بين الجماهير والسلطات العامل الحاسم في مكافحة الوباء حتى بعد تطوير لقاح وعلاج.


المصدر: اخبار جريدة الوطن

عن المشرف العام

التعليقات مغلقة

إلى الأعلى