لم يُسِلْ أحد هرجًا ومرجًا كثيرًا عن الإرهاب وأخطاره وضرورة محاربته مثلما يفعل الغرب الآن الذي لم يفتأ يسوِّق حربه “الإعلامية” على الإرهاب وهواجسه المصطنعة من مخاطر ارتداداته، ليس ليخفي دوره المباشر وسياسته الاستعمارية الرعناء القائمة على صناعة الإرهاب وتشكيل تنظيماته المختلفة الألوان والأشكال والمسميات فحسب، وإنما أساسًا ليبني عليها استراتيجيات ومواقف سياسية ومشاريع تتعلق بسياسته الاستعمارية.
ولذلك ما يعلنه الغرب عن أن الأفكار المتطرفة أخذت تنتشر كالنار في الهشيم في المجتمعات الغربية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وعبر الإنترنت، لا يعدو عن كونه حربًا إعلامية تقتضيها الضرورة السياسية لإثارة نوع من الفزع والمخاوف داخل المجتمعات الغربية ليستمد مزيدًا من الشرعية والتأييد في مواصلة سياساته لخدمة مشاريعه وأجنداته في العالم عامة وفي منطقتنا خاصة، ولإثارة الكراهية والفتن بين مختلف مكونات تلك المجتمعات وخاصة بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى بقصد التشويه المتعمد لصورة الإسلام وأتباعه لينفر رعاياه من الديانات الأخرى من الدين الإسلامي الذي تولى الغرب بسياسته وإعلامه زمام قيادة هذه الحرب الشعواء ليحط عبئًا ثقيلًا عن الكنيسة التي عجزت عن منع أتباعها من الاقتراب من رسالة الإسلام وفهم مقاصدها وأحكامها وحقيقة رسالتها ومن ثم الاقتناع بها، ولهذا ليس مستغربًا أن تكتفي فقط الدول الغربية بالتصريحات الإعلامية، والخطابات الرنانة حول ضرورة محاربة الإرهاب، وكبح جماح تمدده، دون اتخاذ أي إجراءات رادعة للحد من هذه الظاهرة، بل على العكس تمامًا فإنها ما زالت تنتج المزيد من التنظيمات الإرهابية باسم الديمقراطية الغربية، وباسم الحرية وحقوق الإنسان وحماية المدنيين، وتعمل على إرسال عناصرها إلى دول المنطقة المستهدفة على النحو المشاهد في سوريا والعراق وليبيا ومصر واليمن وتونس ولبنان وغيرها تحت شعارات زائفة وهزيلة مثل “دعم الشعب حتى تحقيق تطلعاته” و”دعم المعارضة المعتدلة”.
ووفقًا لهذا التقدير، استطاع الغرب أن يبني استراتيجياته الإعلامية والاستعمارية والعودة العسكرية المباشرة وبالوكالة إلى المنطقة، عماد تلك الاستراتيجيات سياسة الكيل بمكيالين وفرز الإرهاب الذي أنتجه حسب “مع” و”ضد” مصالحه ومشاريعه، كما نجح عبر هذا المنتج في إلصاق تهمة “الإرهاب” بالإسلام زورًا، محاولًا ترسيخ هذه الصورة المغلوطة في فكر المواطنين الغربيين من الديانات والطوائف غير الإسلامية، لدرجة أنه إذا قام محسوب على الإسلام بجنحة أو جناية أقام الغرب الدنيا ولم يقعدها واعتبرها جريمة إرهابية وسارع إلى إدانتها مطالبًا العالم بإدانتها وفي مقدمته المسلمون والعرب الذين يجب عليهم أن يستنفروا لغتهم بحثًا عن أشد أنواع الإدانة والاستنكار، في حين لو قام بالجريمة أو الجناية من أتباع الديانات والطوائف الأخرى عُدَّ عملًا جنائيًّا وغير مقصود أو أُرجِع إلى أسباب شخصية أو علاقات عمل وغيرها، وليس إرهابًا يستوجب الإدانة.
ولعل الجريمة الإرهابية التي ارتكبها المواطن الأميركي كريج ستيفن هيكس ـ الذي قال إنه ملحد ـ بحق ثلاثة مسلمين يوم الأربعاء في تشابل هيل في ولاية كارولاينا الشمالية جنوب شرق الولايات المتحدة، والتي أرجعتها السلطات الأميركية إلى شجار على موقف ودون أي إدانة داخل الولايات المتحدة أو في العالم، وحدها كافية لتؤكد ما قلناه أعلاه عن السياسة الغربية ومدى نجاحها في صناعة الإرهاب وتصنيفه وتوظيفه في قضايا غير أخلاقية ولا إنسانية، مقارنة بالجريمتين ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ اللتين حدثتا مؤخرًا في فرنسا ضد صحيفة “شارلي ايبدو” ومتجر يهودي واللتين تسابقت الدول العربية والإسلامية قبل الدول الغربية وغير الإسلامية في الإدانة والاستنكار بأشد العبارات. فالإرهابي المجرم كريج ستيفن هيكس قام بقتل الشقيقتين يسر (21 عاما) ورزان أبو صالحة (19 عاما) وزوج يسر، ضياء شادي بركات (23 عاما) برصاصة في الرأس، وسط صمت مطبق من الإدارة الأميركية ومن الدول العربية والإسلامية أولًا ومن بقية دول العالم، ما يؤكد مدى العوار والنفاق والازدواجية الذي أصاب هذه الأمة وأمم العالم وساستها وسياساتها المتناقضة.
إن الإرهاب هنا وهناك هو واحد، لا دين ولا هوية له، ولكنه قد يتلون وتتعدد صفاته وحتى استخداماته، وتحمل وظيفته القذرة ووجهه البشع مسميات كثيرة، وكم هو مؤلم وقاسٍ على النفس وعلى الضمائر الحية أن تظل الدماء البريئة والحياة المغدورة ضحية من ضحايا سياسة الكيل بمكيالين وازدواجية المعايير.