لا تزال الهجرة النبوية تمثل الحدث الأكبر في التاريخ الإنساني لما أحدثته من نقلة كبرى في حياة الناس من خلال الإنجازات العظيمة التي حققتها، سواء على المستوى الروحي أو النفسي، وذلك بالسمو بالإنسان روحيًّا والرقي به، من منطلق مكانة التكريم العليا التي اختصه الله بها في الحياة، ليكون خليفته بحق، وليكون على مستوى التكريم منزلة وعملًا وسيرة.
وبالنظر إلى ما كان يعتري حياة الناس في الجاهلية من مظاهر لا تستقيم مع الحكمة الإلهية لتكريم الإنسان وجعله خليفة في الأرض، كعبادة الأصنام، والربا والرق وغيرها من مظاهر الجاهلية فإن عملية الانتشال من وضع أدنى إلى وضع أعلى، بقدر ما كانت جوهر الدعوة المحمدية إلى الإسلام الحنيف، بقدر ما كانت أهم نجاح تنجزه والذي يعد من نتائج الهجرة النبوية التي قام بها المصطفى عليه الصلاة والسلام من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.
ومن يتتبع مسار الهجرة النبوية وما رافقها من أحداث يجد فيها الكثير من الدروس والعبر من خلال ما ضربه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من أروع الأمثلة على تحمل أمانة الدعوة والتبليغ، وتحمل الأذى والضيم والاتهامات الباطلة من قبل كفار قريش، والتضحية والفداء من قبل الصحابة الكرام الذين يأتي في مقدمتهم علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ بقبوله النوم في فراش النبي عليه السلام وذلك في ليلة الهجرة، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه بمرافقة النبي ومشاركته في الدعوة، والاختباء معه في الغار، وأسماء بنت أبي بكر التي بذلت نفسها فداء للنبي عليه السلام ولوالدها رفيقه في طريق الهجرة، فكانت تخرج متخفية لتزويدهما بالطعام والماء، ولم تجد حينها ما تربط به الطعام والماء فعمدت إلى نطاقها وشقته إلى نصفين. ويستفاد من هذا الدور المكانة والحقوق التي حظيت بها المرأة في الإسلام ومنزلة التكريم، حالها في ذلك حال الرجل، وقد خلدت الدعوة الإسلامية منذ بزوغ نورها الوضاء، أسماء نساء مسلمات كان لهن شرف نصرة دين الإسلام والذود عنه.
على أن الهجرة النبوية عند الوقوف على أحداثها ونتائجها تعد حدثًا غيَّر مجرى تاريخ البشرية من حيث التمكين الإلهي للرسول صلى الله عليه وسلم من تبليغ دعوة الإسلام، وأن تكون يثرب/المدينة المنورة المكان الذي سطع منه نور الهداية الإلهية، منتشلًا الناس من ظلمات الجهل والغواية والضلالة إلى مرافئ الهداية والرشاد والصلاح والاستقرار النفسي، وتبصير الناس وإرشادهم إلى ما فيه خير أنفسهم وصلاح مجتمعهم، وبيان الهدف من خلقهم، وقد لعبت أخلاق النبوة دورًا كبيرًا ليس في ترتيب شؤون الناس وحسن سياستهم فحسب، وإنما في التعريف بعظمة دين الإسلام وما يشتمل عليه من قيم ومبادئ وأخلاق وأحكام تساوي بين المسلمين وتحفظ حقوقهم وتحترمها، وأن لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى، فكانت صفات النبي صلى الله وعليه وسلم وأخلاقه التي وصفها الله تعالى بالعظيمة حين قال عز من قائل: “وإنك لعلى خلق عظيم”. كالحلم والتواضع والصبر والكرم والبر سببًا في دخول الكثير إلى الإسلام.
وما يؤسف له اليوم أن ذكرى الهجرة النبوية تمر كل عام، والمسلمون غدوا فرقًا وأشتاتًا وأحزابًا، وأخلاق الإسلام تئن من إهمالها، وأحكام الشريعة السمحة، ومبادئ الإسلام وقيمه وتوجيهاته أحل محلها أحكام وقيم ومبادئ دخيلة، أخذت تفتك بأمة الإسلام وتبعدها عن الأهداف والغايات النبيلة، وعرقلتها عن مواصلة حمل رسالتها، فاختلفت مع ذلك نظرة الكثير من غير المسلمين إلى الإسلام وأتباعه، في حين كان يفترض أن تكون ذكرى الهجرة النبوية ـ التي احتفلت السلطنة بها أمس الأول ممثلة في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية ـ مناسبة تتجدد فيها الدروس والعبر، وتستلهم منها المُثل والقيم والمبادئ، ويتجدد معها نور الهداية وصلاح الأمة، فتعود إلى رشدها ووحدتها وقوتها.
المصدر: اخبار جريدة الوطن