بين ما انتهى إليه محفل بروكسل يوم أمس من أن “الإرهاب يشكل تهديدًا مباشرًا لأمن أعضاء الحلف الأطلسي وللاستقرار والازدهار الدوليين”، وبين إعلان حكومة العدالة والتنمية في تركيا التي دعت “الناتو” لهذه الحفلة عن إقامة “منطقة آمنة” في شمال سوريا، يتدحرج الكثير من الأسئلة الباحثة عن إجابة والتي تبدو أمام المتابع أنها أقرب إلى أحجية من كونها أسئلة أفرزها تطور سريع ولافت في مسار الأحداث في سوريا واستباحة الأراضي السورية من قبل سلاح الجو التركي بحجة محاربة إرهاب “داعش” وحزب العمال الكردستاني.
ذلك أن الربط بين محاربة الإرهاب واعتباره تهديدًا للاستقرار والازدهار الدوليين، واستباحة أراضي دولة ذات سيادة والاستيلاء عليها بحجة محاربة إرهاب تنظيم أو تنظيمين، وبين تسليم المناطق المستباحة والمستولى عليها إلى إرهاب تنظيم آخر تحت ذريعة دعم ما يسمى “معارضة معتدلة” وإعادة اللاجئين، لا يغير من واقع المؤامرة التي تستهدف سوريا أرضًا وشعبًا وجيشًا وقيادةً، وإنما هو تبديل في التكتيكات دخلت فيها حسابات المصالح دعت إلى حالة التشبيك القائمة بين الولايات المتحدة وتركيا بعد تعنت طويل لأنقرة لقبولها الانضمام في الاستراتيجية الأوبامية الهلامية والحرب الإعلامية ضد تنظيم “داعش” الإرهابي، وتلاقت عبرها الحسابات الداخلية، استدعت ولادة المقايضة بين استخدام واشنطن قاعدة إنجيرليك، والقبول الأميركي بالسماح للتركي بالحديث عن “مناطق آمنة” في شمال سوريا.
وبالنظر إلى حالة التلاقي والتشبيك في المصالح والحسابات الداخلية لكل من حكومة العدالة والتنمية في تركيا والإدارة الأميركية، نجد أن كلًّا منهما يراهن على الناخب وصوته، فحزب العدالة والتنمية لا يزال يشعر بالمرارة من تراجعه في الانتخابات الأخيرة وعدم قدرته على تشكيل حكومة جديدة، ويراهن على نجاح ما خسره في جولة الإعادة التي يسعى إلى الذهاب إليها، من خلال استغلال الخوف الداخلي من الإرهاب، ومغازلة القوميين الأتراك باعتبار حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية ومحاربته في الداخل والخارج، بالإضافة إلى منع أي فرصة للأكراد تشكيل دولة كردية مستقلة، فضلًا عن ما تولد من كراهية تجاه الأكراد جراء نجاحهم في ضرب “داعش” والتقدم في القضاء عليه في شمال سوريا. أما الإدارة الأميركية الديمقراطية فيسعى باراك أوباما إلى ضمان صوت الناخب الأميركي وفوز الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية القادمة.
على أن المثير للانتباه في خضم التحرك العسكري ـ السياسي للولايات المتحدة وتركيا وبقية أعضاء الحلف الأطلسي في المنطقة هو التحذير الموجه للقيادة التركية من أنه “يجب التنبه إلى عدم الخلط بين الأهداف”. فهذه العبارة حمَّالة أوجه، إلا أن ما قاله مسؤولون أميركيون أمس الأول يحمل أحد التفسيرات للعبارة من أن الشراكة الجديدة بين الولايات المتحدة وتركيا “تهدف إلى إقامة منطقة خالية من تنظيم “داعش” وضمان قدر أكبر من الأمن والاستقرار على طول الحدود التركية مع سوريا”، مؤكدين أن الاتفاق سيضمن دعم تركيا “لشركاء الولايات المتحدة على الأرض” الذين يقاتلون “داعش”. بمعنى آخر أن المراد هو عدم الخروج عن أهداف مخطط استهداف سوريا إلى انشغال داخلي بالمبالغة في استفزاز حزب العمال الكردستاني، ما قد يؤدي إلى ردات فعل عنيفة، لن يكون ساعتئذ معسكر التآمر والعدوان قادرًا على مجاراة التقدم الميداني للجيش العربي السوري والدفاع الوطني، ما سيرجح كفة الميدان لصالح الدولة السورية.
إن تغيير العقيدة السياسية من دعم وتمويل بعض الإرهاب إلى محاربته ومواجهته في الحقيقة تحتاج إلى جملة من المحددات والأدلة تؤكد هذا التحول، وليس تبديل التكتيكات لمحاولة تهيئة الأجواء لمغامرات عسكرية غير محسوبة.