لم يكتب التاريخ يومًا عن غزاة أنهم بنوا حضارة في الدول التي غزوها وأقاموا فيها مجتمعات متحضرة ونهضة تنموية شاملة، سواء كان ذلك بأيديهم أو بأيدي عملائهم وأدواتهم ووكلائهم، بل إن التدمير الممنهج والتفتيت المنظم ونهب كل ما علا الأرض وتحتها في الدولة المتعرضة للغزو وعلى أوسع نطاق هو هدفهم الأساس وسلاحهم الذي تأبطوه.
لقد كان تدمير الحضارة وطمس كل شواهدها وآثارها سلوكًا متأصلًا لدى الغزاة وذلك لعريهم الحضاري، فهم عبارة عن لصوص وقطاع طرق ومستعمرين، ما غرس فيهم حقدًا دفينًا وكراهية مطلقة للحضارة ولكل ما يمت لها بصلة، وغرس كذلك فيهم طبعًا بتشويه التاريخ تشويهًا يتلاءم مع سلوكياتهم الاستعمارية واللصوصية وتاريخهم المليء بالأحقاد والكراهية والفتن وتدمير مظاهر التحضر والإنسانية.
وأيًّا كانت اليد الآثمة المجرمة وأيًّا كان انتماؤها التي تجرف تاريخ الحضارات وشواهدها وآثارها على مر حقب التاريخ في الأرض العربية في فلسطين والعراق وسوريا ومصر وغيرها، وتعمل على تشويه مقصود ومتعمد وممنهج ومنظم لنصاعة التاريخ الإسلامي والتعايش العربي في ظل الإسلام مع مختلف الطوائف والأعراق في تمازج أعطى المجتمعات العربية والإسلامية خصوصيتها وفرادتها، وأكد البُعد الإنساني لرسالة الإسلام والثقافة الإسلامية، والتكوين الغريزي والنفسي المسالم والمحب للخير لدى العربي المسلم الحقيقي في احتضانه الآخر، والمشاركة الجمعية في تشييد المجتمعات وتطورها ورقيها على النحو الذي برز بصورة لافتة على مدى حقب التاريخ في الدول العربية لا سيما تلك الدول التي تتكون مجتمعاتها من مسلمين ومسيحيين وغيرهم من الطوائف الأخرى، فأيًّا كانت هذه اليد الآثمة المجرمة سواء كانت ملبسةً لبوسًا إسلاميًّا وعربيًّا أو غيره، فإن هذه الجريمة كبيرة ولا تغتفر، ويقف وراءها ممتهنو الاستعمار واللصوصية والإرهاب الذين تلوثت المنطقة بأدناسهم وأرجاسهم الذين يمضون الآن في تدمير ما تبقى من حضارة الإسلام والحضارات السابقة وطمس كل معالمها، سواء كانت مادية كالمساجد والقلاع والقباب والمتاحف، أو بشرية باستهداف غير المسلمين من المسيحيين وغيرهم من مكونات المجتمعات العربية على النحو الذي بات يشاهده العالم أجمع من تهجير للمسيحيين في العراق وسوريا. والفارق بين اليوم والأمس هو أنه في السابق كان المستعمرون ولصوص الحضارة وعاري التحضر هم من يقومون بالجريمة، أما اليوم فهناك جيوش من العملاء والمرتزقة والوكلاء والتكفيريين تكفلت بهذه المهمة نيابة عن أسيادها وصانعيها، ولذلك للباحث عن الحقيقة والترابط والعلاقة المولودة من رحم كذبة “الربيع العربي” أن يقارن بين ما يقوم به كيان الاحتلال الإسرائيلي من تدمير ممنهج للحضارة الإسلامية والمسيحية وحضارات ما قبل المسيحية والإسلام في فلسطين المحتلة، وتدمير منظم وممنهج ضد المسجد الأقصى وهدم أساساته، وحرق المساجد والكنائس وجرف المقابر، وتهويد القرى العربية وتغيير مسمياتها من عربية إسلامية إلى يهودية في صدام واضح ومخالفة صريحة مع تاريخ تلك الحضارات، وبين ما تقوم به المنتجات الصهيو ـ غربية من العصابات الإرهابية في العراق وسوريا وليبيا ومصر من تدمير ممنهج ومنظم لشواهد الحضارات من مساجد وقلاع وقباب وأضرحة وكنائس ومتاحف، وتهجير وقتل للمسيحيين بالتحديد.
إذًا، المنطقة تشهد في ظل كذبة “الربيع العربي” إعادة إنتاج جيوش الاستعمار والغزاة واللصوص والارتزاق والتكفير منذ هولاكو والتتار وحتى الآن من تتار العصر الماثل في كيان الاحتلال الإسرائيلي وحلفائه الاستراتيجيين وعملائه وأذرعه القدماء والجدد، وإن اختلفت المسميات والهويات. وما يزيد الآلام ألمًا هو حالة الخرس التي أصابت دولًا بالمنطقة من أنظمة وعلماء وشعوب وطوائف إزاء تدمير يمس هويتهم وحضاراتهم وعقائدهم، في حين كان علماء أقاموا الدنيا ولم يقعدوها على قيام طالبان أفغانستان بتدمير تمثالين لبوذا.