في وقفة عرفات وما يتبعها من عيد الأضحى تكمن إحدى الحكم البالغة التي أراد بها الإسلام للمسلمين أن يجتمع شملهم وتتعزز وحدتهم، ويوقنون في كل عودة للمناسبة الجليلة أن التآم لحمتهم، واشتداد عروتهم الوثقى، لن تكون إلا إذا ظل المعلم العام للإسلام واضحًا في مفهوم الجماعة الواحدة والبنيان المتين والجسد الواحد وإن تعدد منه الأعضاء، لكنه تعدد الفروع المرتبطة بالأصل ارتباطًا لا يعرف الانفصام.
وفي خطبة العيد يكمن الخشوع إلى الله في هذا اليوم العظيم الذي جعله الله أكبر معلم من معالم اجتماع المسلمين في المكان الواحد وهو جبل عرفات، يهلل فيه الناس ويكبرون بلسان واحد ويلهجون بالدعاء إلى الله أن يهبهم النصرة، وأن يتقبل صالحات أعمالهم. وتعد خطبة العيد في كافة البلدان الإسلامية امتدادًا ليوم الحج الأكبر، فمن لا تؤاته الفرصة ليقف في هذا اليوم بالمشاعر المقدسة فتكون أمامه الفرصة أن يصلي العيد إلى جانب إخوانه المسلمين في بلده وقلبه معلق بإخوانه الحجيج على بعد آلاف الأميال من حيث يقف هو مهللًا مكبرًا في وطنه.
بلادنا المؤزرة تعيش فرحة عيد الأضحى المبارك هذه الأيام مشاركة في ذلك كل الدول العربية والإسلامية، ومشاطرة هذه اللحظات الروحية المؤنسة مع الذين يؤدون فريضة الحج، لكن بلادنا تعيش العيد بخصوصيتها وحميمية العلاقة بين مواطنيها بعضهم بعضًا وبين مواطنيها وقيادتهم الحكيمة ممثلة في باني نهضة عُمان الحديثة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه.
وفي صلاة العيد بمسجد الخور في مسقط أمس والتي حضرها صاحب السمو السيد فهد بن محمود آل سعيد نائب رئيس الوزراء لشؤون مجلس الوزراء جاءت خطبة العيد التي ألقاها فضيلة الشيخ الدكتور إسحاق بن أحمد البوسعيدي رئيس المحكمة العُليا نائب رئيس المجلس الأعلى للقضاء الذي استهل خطبته بالتكبير والتهليل والحمد والثناء لله على فضله، جاءت مفعمة بالحكمة البالغة والمضامين الطيبة حول موسم الحج الذي هو موسم الفضائل بما يتضمنه من مواعظ وقيم تتجلى فيها الأحكام الإلهية لمن يأخذ بها ويطبقها في حياته اليومية إن أراد السمو الروحي والدنيوي على السواء، فالمبادئ التي يرسخها الحج وما يتضمنه من تكبير وتهليل وطاعة لأوامر الله وترك لما نهى عنه، هي التي تجلب الخير للإنسان في الدنيا والآخرة، والإنسان مدعو إلى استلهام هذه المناسبة الجليلة إلى إعمال العقل وتفعيل الحكمة، ومبادئ الأخلاق القويمة لبناء المجتمع الفاضل، وحين خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وتلا قول الله تعالى “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي”، إنما يكون قد ترك لنا رسالة تتضمن حدود المسؤولية عن الأقوال والأفعال من بعده، حيث أكد فضيلة الشيخ الدكتور رئيس المحكمة العُليا نائب رئيس المجلس الأعلى للقضاء أن وحدة الصف واجتماع الكلمة ونبذ التنازع من المقاصد الكبرى للدين الإسلامي لقوله سبحانه وتعالى (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) وأن وحدة الكلمة لهذه الأمة تبدأ من لبنتها الأولى وهي الأسرة المسلمة، مبينًا أن الإسلام شدد على العناية بها وحذر سبحانه من إضاعة حقوق الأرحام وقرنه بالإفساد في الأرض الموجب للعقوبة والانتقام. كما أن الشريعة الغراء تميزت بمنهج الوسطية والاعتدال في كل أبوابها ومقاصدها لقوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا) فلا إعنات ولا غلو ولا تنطع ولا شطط .. وقال عز وجل (وما جعل عليكم في الدين من حرج)، فما أحوج المسلمين اليوم إلى التزام المنهج الذي تصفو به قلوبهم وتنشر من خلاله مبادئ المحبة والوئام في مجتمعاتهم.
ومن الحكم البالغة في خطبة هذه المناسبة الجليلة التي ينتظرها المرء المسلم من العام للعام ليعمر قلبه بالإيمان، ويستقيم على النهج القويم، ويهتدي بنصائح أهل الذكر، نعمة الأوطان ونعمة استقرارها والأمن والأمان فيها، وما يجب من أهمية المحافظة على النعم، فهكذا أمرنا كتاب الله العزيز، وهكذا علمتنا سنة نبيه الأمين حتى نزداد ثقة في أنفسنا وفي عقيدتنا وفي قيادتنا الحكيمة، وفي ذلك ما فيه من التماس للأمن والأمان واستقرار الوطن وتمهيد السبيل لكل مواطن كي يعيش آمنًا مطمئنًّا على يومه وغده ومستقبل أبنائه، فنعمة الأمن كانت المطلب الأول لنبي الله إبراهيم (رب اجعل هذا بلدًا آمنًا) ثم جاء طلب الرزق في المرتبة الثانية.. (وارزق أهله من الثمرات)، وبهذه المناسبة العطرة نتقدم إلى حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ وإلى كافة المواطنين وإلى شعوب العرب والمسلمين بالتهاني والتبريكات وكل عام والجميع بخير وأمن وسلام.