علي عقلة عرسان
أطلقت منظمة الجهاد الإسلامي ما يقرب من خمسين صاروخًا على المنطقة الواقعة شمال قطاع غزة من فلسطين المحتلة، ردًّا على جرائم “إسرائيل” المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني في غزة والقدس والضفة الغربية، وعلى استهدافها أربعة من عناصر الجهاد استشهدوا خلال الأسبوع الماضي في غزة، حيث القتل المتعمَّد نهجٌ معتَمدٌ يختاره ويشرف عليه اليوم القائم بأعمال رئيس الأركان الفريق بيني غانتس في جيش الاحتلال “الإسرائيلي”، وهذا الجيش (يقتل ويقتل، وتقع جرائم حرب رويدا رويدا وبلا تشويش)!!.. وقد جاء رد الجهاد الإسلامي على هذا التصعيد الإجرامي قويًّا أدخل محتلي المستوطنات في جنوب فلسطين المحتلة الملاجئ، لكنه لم يوقع إصابات بينهم ولا في قوة الاحتلال “الإسرائيلي”.. وقد قام الكيان الصهيوني بغارات جوية وعدوان بري في ليل الأربعاء الـ12 من آذار/ مارس 2014 وصباح الخميس التالي، حيث شنت طائراته أكثر من ثلاثين غارة أدت إلى استشهاد ثلاثة فلسطينيين وإصابة آخرين، وسببت أضرارًا مادية كبيرة .. ردًّا على رشقات صواريخ الجهاد الإسلامي، وتوعَّد بشن مزيد من الهجمات، بينما دعا الإرهابي بمرتبة وزير، أفيجدور ليبرمان، إلى احتلال قطاع غزة بكامله ردًّا على ذلك.
إن تصفية الفلسطينيين على أيدي الصهاينة سياسة ثابتة لها برامج إبادة مستمرة في القطاع والضفة والقدس وفي داخل فلسطين المحتلة منذ عام 1948 ويتم ذلك بتسبيب أسباب أو باختلاق أسباب، لأن الهدف النهائي هو إبادة الشعب الفلسطيني جسديًّا أو معنويًّا وروحيًّا وإرادة وجود. وعلى طريق تحقيق ذلك الهدف يقوم الاحتلال بقتل أي طفل إذا رمى حجرًا باتجاه مستوطنة؟! وهناك استفزازات وانتهاكات وممارسات يومية يقوم بها الاحتلال الصهيوني ضد الفلسطينيين، تبدأ بالتهويد وتدنيس المقدسات الإسلامية في القدس، وعلى رأسها المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ولا تتوقف عند الاستمرار في قضم الأرض في الضفة الغربية بالاستيطان المكثف، ولا عند هدم القرى والبيوت وقطع الأشجار وتدمير المحاصيل الزراعية والقضاء على مصادر العيش، وملاحقة الفلسطينيين بالاعتقال والتعذيب والموت والتشريد، وجرجرة السلطة ومفاوضيها مدة سنوات وسنوات في مستنقعات مفاوضات عقيمة يتم خلالها الاستيطان بكثافة، وتفريخ طلبات بعد طلبات وذرائع بعد ذرائع لإدامة عمر المأساة وتنفيذ برامج الإبادة .. ومن الطلبات وأفراخها: التنازل عن حق العودة، وعن المستوطنات في الضفة، وعن القدس وأجزاء من حرم المسجد الأقصى، والقبول بيهودية “إسرائيل”، والموافقة على تمركز جيش الاحتلال في الحدود على طول الضفة الغربية لنهر الأردن في مناطق الحدود بين فلسطين “الدولة” والأردن .. فضلًا عن كون الدولة المنتظرة على 22% من أرض فلسطين بلا جيش ومفتوحة الأجواء والأرض أمام جيش الاحتلال يسرح ويمرح فيها كيف شاء ومتى شاء..إلخ.. وكل ذلك الفعل المأساوي الممتد طوال عقود من الزمن يتم اليوم بقوة وشدة وتصعيد في ظل تمزق عربي لا نظير له منذ الاحتلال الصهيوني لفلسطين عام 1948، وفي ظل ضعف عربي يتراكم فوق ضعف ومهانة لهم بعد مهانة، وتنكر من عرب كثيرين لقضية فلسطين وكأنها لا تعنيهم، واستماتة عرب آخرين في خدمة مشاريع الغرب الاستعماري والصهاينة العنصريين في اقتتال عرب وعرب، وعرب ومسلمين، وإشعال نيران الفتن الطائفية والمذهبية بينهم، وبذل الغالي والنفيس لتحقيق تدمير الآخر لا سيما إذا كان من أولئك الذين يرفعون راية المقاومة ويدعون إلى تحرير فلسطين .. أما الذرائع والمداخل إلى ذلك وأشكال التمويه للأهداف الحقيقية التي لا تخدم سوى العدو الصهيوني، ومنها تدمير المقاومة وإشغالها عن أهدافها الرئيسة، ومحاولات استقطابها في صراعات داخلية أو إقليمية، واتهامها بالإرهاب وحاولات تشويه صورتها ونضالها .. وكذلك تدمير سوريا وجيشها وقواعده العسكرية وقوى الدفاع الجوي وسلاح الصواريخ الذي لا يستخدم إلا ضد العدو الصهيوني عند الضرورة، والمؤسسات السورية الخيرية.. إلخ فحدث عنه ولا حرج؟! .. وقد برزت في الآونة الأخيرة، لا سيما بعد إطلاق دعوات عربية وغربية بشن عدوان خارجي على سوريا بذريعة فشل مؤتمر جنيف2، برزت إلى العلن دعوات صريحة من أطراف في “المعارضات السورية؟!” للتحالف مع إسرائيل والقتال إلى جانبها ضد سوريا للقضاء على ما تبقى منها؟! .. وكان ذلك التوجه سياسة مقرَّة باتفاق خفي بين “معارضين سوريين؟!” والولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل والغرب منذ بدايات الأزمة السورية التي تحولت إلى حرب مدمرة، وكان ذلك عبر حلفاء “إسرائيل” الغربيين والمتعاونين معها من العرب، في صفقة شرطها الأساس أنهاء قضية فلسطين وفق رؤية الكيان الصهيوني وشروطه وإملاءاته .. وهي صفقة تقوم على أساس تشويه المقاومة، والقومية العربية، وتعمل على إبادة كل عربي ومسلم يقول لا للاحتلال الصهيوني ولهيمنة “إسرائيل” على المنطقة، وكل من لا يسلِّم بالنفوذ الأميركي الشامل فيها، ولا يقر تبعية مطلقة تبقيها مسرحًا للغرب الاستعماري، لكي يحمي مصالحه فيها وفي سواها انطلاقًا منها، ولينفذ سياساته واستراتيجياته الإقليمية والدولية بمشاركة من يحتمي به من حكامها ومسؤوليها وأهلها .. ولقد قال “معارضون سوريون ذلك بملء الفم، مكتوبًا وملفوظًا ومسموعًا .. فيا للعار الذي ما بعده من عار، ويا لخزي من يتحالف مع محتل أرضه وعدو شعبه وكاره دينه وهويته وثقافته ضد وطنه وشعبه وأمته .. ويقبض لقاء ذلك ثمنًا مهما كثر وكبر فهو الخزي الأبيد؟!
لم يقف العرب اليوم حيال غزة وما يجري فيها موقفًا مجديًا يردع العدوان ويضع حدًّا للحصار، ولم يرفعوا صوتًا ولو من باب رفع العتب، عندما انتهك الصهاينة حرمة الأقصى مرات ومرات، ولا احتجوا على برنامج القتل اليومي المستمر للفلسطينيين صغارًا وكبارًا، نساء وأطفالًا، ولا هم اخترقوا بصورة تامة وشاملة ونهائية حصارًا مميتًا مقيتًا مزريًا بغزة وأهلها وأمتها وبالإنسانية كلها .. مستمرًّا منذ سنوات .. ولا هم احتجوا بصوت مرتفع أمام الأمم المتحدة كما فعل ويفعل الأمين العام بان كي مون الذي سارع ويسارع دائمًا إلى إدانة المقاومة وحماس لإطلاق صواريخ من غزة على ما سماه “إسرائيل أو سكان إسرائيل”، بينما ابتلع ويبتلع لسانه باستمرار حينما يتعلق الأمر بقتل الفلسطينيين، وقضم ما تبقى من أرضهم، وتجدد العدوان الصهيوني عليهم كلما رأى مسؤول في دولة الإرهاب العريقة في إجرامها فرصة لذلك أو ضرورة لرفع أسهمه أمام المستعمرين من أمثاله .. في تطبيق صارخ لمسلسل إبادة بطيء طالما نبهنا إلى خطورته، ولا هو قام بخطوة عملية تنهي الحصار القتَّال على غزة وأهلها الذين أنهكهم حصار لا أخلاقي ولا إنساني، ولا قال، هو أو من سبقوه في منصبه، بضرورة تنفيذ قرار من قرارات مجلس الأمن الدولي بشأن القدس والفلسطينيين وصمد في موقفه وبقي عند ثوابت وقيم أخلاقية وقانونية حتى الوصول إلى التنفيذ .. ولا نتكلم عن حق العودة بموجب القرار 194 لعام 1948 ولا عن حق تقرير المصير المقدس والمكرس في القانون الدولي ونضال الأمم والشعوب، ولا عن إنهاء الاحتلال الصهيوني الذي لم يبقَ غيره احتلال في العالم؟! وكل ذلك الذي تم ويتم يسكت عليه الغرب المنافق، الممالئ للكيان الصهيوني والمشارك له في سياساته العنصرية الاستعمارية العدوانية؟!
إن الجهاد الإسلامي تدرك جيدًا أنها لا تملك قدرة الاحتلال الصهيوني وقوته ومصادر دعمه العسكرية والسياسية والاقتصادية، وإنه المدعوم غربيًّا بلا حدود، ومن بعض العرب بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة، وتدرك جيدًا أنها تخوض معركة الجسد والدم والروح في مقابل القوة الغاشمة الهائلة للعدو الصهيوني وحقد الأعمى وعنصرية البغيضة .. ولكنها لا تملك أن تقف مكتوفة الأيدي بينما تتم تصفية عناصرها واحدًا بعد الآخر، ويتم تدمير الفلسطينيين شريحة بعد أخرى، والقضية العادلة قضيتهم مرحلة بعد مرحلة، ويستمر انتهاك القدس حتى التهويد وتدنيس المسجد الأقصى وتقسيمه على نحو ما فعل العدو الصهيوني في الخليل .. إنها لا ترمي إلى أن تحرج سواها، ولا تهدف إلى إحراج منظمات وزجها فيما لا تريد، ولا إلى كشف أنظمة .. فذاك ليس هدفها، لأن هدفها الرئيس مقاومة الاحتلال وتحرير الأرض والإنسان، وعلى رأس من تقدمه من أهداف القدس .. وحين يتعلق الأمر بالقدس فإن للجهاد الإسلامي خصوصية في الاستراتيجية والموقف والتعامل والرد، فأنا أعرف جيدًا أنها قامت أساسًا من أجل الدفاع عن القدس أولًا، بما للقدس من مكانة روحية ورمزية نضالية وقيمة تاريخية، وبوصف القدس مفتاح القضية وعنوانها العريض وعاصمتها الأبدية. وقد لمست صدق مؤسسها الشهيد فتحي الشقاقي وثباته على المبدأ والهدف، الشقاقي ذلك الصديق الصادق الذي حدثني عن المنظمة وأهدافها وعن تعلقه بالجهاد من أجل بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وكتب عن ذلك وحاضر وحاور .. وقد بقيت منظمة الجهاد الإسلامي وفية لمواقف مؤسسها وثابتة على مواقفها ومتمسكة بخياراتها وأهدافها، لا يزيغ بصرها ولا تزل قدمها في عهد المؤسس أو في عهد من جاء بعده من قادة .. كما أنني لمست ذلك الصدق والثبات ووضوح الرؤية في مواقف المجاهد الصديق رمضان عبدالله شلح .. حيث وقفت على صدقه وشمول رؤيته وبعد نظره وتعلقه بكل نبضة قلب في القدس وفلسطين، وإدراكه لآفاق العمل النضالي وضروراته، سواء من غزة وفيها أو من سواها، خدمة للأهداف الاستراتيجية للمقاومة كلها..
وعليه فإنني، أنا الثابت بعون الله على خيار المقاومة والمقتفي طريق شهدائها، المستنير بهم مشاعل نور في ليل الأمة الدامس وضعفها الرامس، أقول بأهمية وضرورة الأخذ بها خيارًا وطريقًا لتبقى قضية فلسطين حية في الضمائر والذواكر، وفي أرض الواقع ونظر الأجيال القادمة، حتى التحرير .. وأقول بضرورة تفهّم موقف المقاومين ودعمهم والوقوف إلى جانب خياراتهم، وبضرورة أن يستقطبوا أبناء الأمة حول المقاومة وعلى طريقها، لا أن يستقطبهم ويستقطب فصائلها فيعطبها حكامٌ من حكام أقطار الأمة العربية ليضعوهم في خدمة صراعاتهم وعماياتهم ونكايات بعضهم لبعض، أو يتخذون من المقامة قميص عثمان، أو يسترون بها العاري من سياساتهم وارتباطاتهم ومواقفهم حيال قضية العرب المركزية، قضية فلسطين.
إن من يقف إلى جانب المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني عليه أن يقدم لها ما يستطيع بإخلاص، وعليه أن يدرك أنه إنما يقدم ما يقدم لنفسه وبلده ودينه وثقافته وهويته وأمته، لأن هذا كله هو ما يستهدفه الصهيوني العنصري المحتل وحلفاؤه الغربيون الذين يحملون العداوة ورسيس الحروب الصليبية وأطماعًا لا تنتهي بالأمة ومقومات وجودها، وهو ما يساعدهم عليه كل من مشى خلفهم أو يستطلع لهم ويفتح لهم ثغرات في جدران بيت الأمة، سواء أأدرك ذلك أم لم يدركه، وسواء أباع واشترى بالجغرافية والتاريخ والحضارة والناس أم سار في الزَّفَّة وأصبح مثله مثل “حمار العرس” كما يقول مثل الفلاحين، ينهكه التعب والظمأ وهو يخدم ولا يلقى من يسقيه أو يطعمه بعد كل الخدمة.
لا ننتظر من العدو الصهيوني أن يغير طبيعته الشريرة، فهو منذور لذلك مجبول بالإثم والكذب والكراهية والعدوان، ولا يمكن أن يغير سياسته المعتَمَدة لإبادة الشعب الفلسطيني فهو يريد أرضًا بلا شعب وأن ينهي من يطالب بحق في فلسطين من أهلها التاريخيين، يفعل ذلك بعنصرية لا نظير لها وبخبرة عنصريي الولايات المتحدة الأميركية الذين أبادوا الهنود الحمر وحضارتهم لينشؤوا وطن التمييز العنصري واستعباد الزنوج والمكيافلية الرخيصة والعدوان على الآخرين وليطرقوا لغة الحديد الحروب النووية والكيمياوية، وفنون محاصرة الآخرين، تلك التي يرفعون عقيرتهم بها كلما لاح أمامهم أفق دولة تقول لهم لا، ولا ننتظر من الغرب الاستعماري أن يتغير ويغير مواقفه من العنصرية وممارسة الازدواجية والنفاق .. والأبعد من ذلك أن ننتظر من الإمعات في وطننا العربي والعالم أن يختاروا خيارات صحيحي الإرادة وسليمي الرؤية والثابتين على قيم العروبة والإسلام، وقيم الحق والعدل .. ذلك لأنهم يخشون من ظلالهم التي يعتقدون أن حلفاءهم يحمونهم منها، ويخشون شعوبهم إذا ما رفع الظلم والجهل عنها.. ولا يخشون الله فيما عُهِد إليهم به من أناس وتراث وقيم وعقيدة وحضارة .. فكل دم لديهم مباح حتى لا يسمعوا صوت صائح إذا اضطر إلى الصياح.
إن المقاومة طريق تحرير وحرية لمن يقعون تحت الاحتلال ويعانون من القهر والظلم والاستبداد والاستعباد، وهي الطريق الأوحد لمن يدافعون عن أنفسهم وأرضهم وعن الحق والأخلاقي والمقدس في حياتهم، ولا يمكن أن يتم التنكر للمقاومة بوصفها خيارًا مشروعًا، أو أن تضمحل أو تموت أو يُبْطَلَ وجودها وتنتفي ضرورتها، لأنها تقدم ضحايا ولا تحقق انتصارات نهائية باهرة لا سيما في بعض مراحلها، كما أن تلك المقولات السابقة تتضاءل حين تتحرك المقاومة ضد الغاشم فتخسر وتدمى لأنها لا تملك توازن قوة معه ولا قوة ردع له .. فذاك أمر لا يتحقق لها إلا إذا فُتح طريق الفعل أمامها وغذَّته التضحيات، وأبدع المقاومون ـ المجاهدون المناضلون .. في أدائهم لتحقيق ما يؤمنون به ويتطلعون إليه من أهداف سامية.