كنا في العادة وحسب تنشئتنا الاجتماعية المحافظة نغض البصر عن أعراض الرجال كلما لمحنا امرأة تسير في الشارع، فنسارع إلى طأطأة رؤوسنا احتراما وتبجيلا لها، عاقدين العزم على أن لا نمعن النظر على وجهها رغم أنها عادة ما تكون محتشمة في ملابسها على وجه العموم.
فقد أسهمت التنشئة الاجتماعية للرجل الشرقي في رفع سقف اعتزازه بنفسه وإحساسه بأنه الوصي على “بنات فريقه”، وذلك في كافة المجتمعات الشرقية التي تسودها “الجندرية” بشكل أكثر عمقا أي يشار فيها إلى الرجل بالبنان، فتجده مرفوع الرأس دائما، بارز الأنف يزفر من خلاله متأففا عن كل ما يخدش شجاعته وإحساسه بالقوة والتميز.
وللسخرية وبعد أن اجتاحتنا جائحة كورونا التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، وارتفع عدد الإصابات بشكل جنوني ليفوق الأربعة ملايين متجهة نحو المليون الخامس الذي نتعشم في أن لا يصل العدد إلى هذا الرقم قبل أن تنجلي الغمة، فقد أصبحنا نحن معشر الرجال من يجنح إلى الحشمة وراء الكمامات، خوفا من الإصابة بفيروس كورونا وما يسببه من مرض “كوفيد 19″ القاتل، حيث تمكن كورونا من أن يلبسنا القناع رجالا ويوشحنا به ليغطي به أنوفنا وأفواهنا، بل وجزؤ من خدودنا والجفن الأدنى من أعيننا، وذلك بغض النظر عن الاسم قناعا كان أم كمامة أو برقعا، أو حتى حجابا.
فصرنا ونحن على هذا الحال نمشي بالشوارع والمجمعات التجارية وغيرها من الأماكن التي نذهب إليها مضطرين، وأنوفنا الشامخة مدسوسة خلف قناع أو كمامة وكأننا حريصون على إخفاء وسامة وجوهنا عن أعين غيرنا خجلا واستحياءً، بل وأيدينا مدسوسة داخل قفازات، تلك التي ظلت الحسناوات تستخدمها لحماية أيديهن من أشعة الشمس ولتظل أكثر نعومة وجمالا، فضلا عن استخداماتها الطبية والحرفية والمهنية المحدودة.
لقد كنا قبل كورونا أكثر ترحابا بمن نلتقي به من أصدقائنا وغيرهم، فنحرص على إظهار حرارة الترحيب، فتنضح قناعاتنا وما رسخ في نفوسنا من أساليب التربية التقليدية حول ما يجب أن نقوم به أثناء الترحيب بالآخر، فتجدنا ننهض واقفين لنصافح ضاغطين الأكف بكل ما نملك من قوة عضل، ثم نأخذ بعضنا بالأحضان أو بالأكتاف أو بالمخاشمة وغيرها… أما اليوم فصرنا نكتفي بتبادل التحيات من على البعد خوفا من بعضنا.
وفي المنزل ظل الرجل الشرقي المحافظ حتى وقت قريب هزبرا في عرينه فلا يقترب من المطبخ إلا ليحمل الطعام إلى ضيوفه من الرجال، وإن غفلت المسكينة وزادت في ملح الطعام قليلا انقلب العرين في ذلك اليوم إلى عالم آخر من التوبيخ. أما اليوم وبعد حلول زمن كورونا، وفي ظل ضرورة الالتزام بالحجر المنزلي، فدخلنا المطبخ متنازلين عن عالمنا الذي كنا نعيش فيه، بل وحرصنا على إظهار إبداعاتنا في عمليات الطبخ وغسل الصحون و…إلخ.
وكيفما كانت قدرة جائحة كورونا على إجبارنا على الدخول في ثياب غير ثيابنا، إلا أنها في تقديري فرصة يجب أن لا نتركها تمضي دون الاستفادة من دروسها على مختلف المستويات الصحية والاقتصادية والاجتماعية، فعلينا أن نجعل الحيطة والحذر وغسل اليدين وتطهيرها عادة مستدامة وليست ظاهرة وقتية، وأن نجعل الخوف من انتقال العدوى سلوكا دائما، وأن نجعل الوقاية والوعي الذاتي سلوكا صحيا مغروسا في أبنائنا، وأن نترك كل ما هو ضار من ممارسات وسلوكيات اجتماعية وعادات وتقاليد مليئة بالمخاطر الصحية إلى الأبد وليس خلال فترة جائحة كورونا فحسب، وأن نعزز قدراتنا العلمية والتصنيعية على إنتاج الأدوية واللقاحات حتى نقلل الاعتماد على غيرنا، فضلا عن ذلك، علينا أن نقصر من سقف “الجندرية” قليلا وبكل تواضع بأن نرفع القبعات للآخر فهو منا ونحن منه، مع أهمية الحفاظ على القيم الأخلاقية الرصينة التي تؤكد عليها وسائل تنشئتنا في كل الأزمان.
المصدر: اخبار جريدة الوطن