د. رجب بن علي العويسي :
في ظل مرحلة جديدة، وطموحات متعاظمة، وغايات سامية وأجندة عمل متواصلة، أفصحت عنها رؤية “عمان 2040″، يترقب المواطن تحقيقها، بما يواجهها من فرص وإنجازات، أو ظروف ومتغيرات وعلى رأسها جائحة كورونا (كوفيد19)، وما فرضته من تحديات اقتصادية واجتماعية، وأوجدته من تحولات ينبغي أن يكون لها حضورها في أجندة عمل منظومة الجهاز الإداري للدولة، وسياسات وخطط وبرامج المؤسسات، وما تتطلبه من جهود في عمليات المتابعة والرصد والتشخيص والتحليل والتقييم، وإعادة التصحيح، وتوفير المؤشرات والأطر والنماذج؛ تأتي أهمية وجود فضاء إعلامي متخصص قادر على احتواء أهداف الرؤية وبرامجها ومبادراتها والوصول بها إلى حيز التطبيق، وتجسيد فقه الرؤية في حياة المواطن ونظم المعيشة والإجراءات والخدمات، وعلى مستوى المؤسسات وممارساتها وبرامجها ومنهجياتها بحيث تعبِّر جميعها عن تحوُّل قادم تصنعه الرؤية، فتعيد إنتاج الممارسة المؤسسية بطريقة ذكية، أكثر ابتكارية ومهنية، وتتعايش مع الأوضاع الاقتصادية والتحولات الاجتماعية وقضايا الأمن الاجتماعي، وتعمل على خفض درجة القلق والخوف لدى أبناء عمان وبناتها من المستقبل، والغموض المرتبط بالأبعاد الاقتصادية والظروف المعيشية في ظل تداعيات الإجراءات الاقتصادية المتخذة وتأثيراتها على حياة المواطن، وفي الوقت نفسه إيجاد حراك تواصلي مجتمعي مع المؤسسات وتفاعل نوعي مع منجزات الرؤية، يظهر في ثقافة العمل المؤسسي، وأدوار المسؤول الحكومي، وتفاصيل العمليات الداخلية وقدرتها على إثبات بصمة حضور فاعلة لها في مواجهة المواقف والظروف، والتي يفترض أن تتجه نحو ترسيخ معايير الشراكة المؤسسية، وتقاسم المسؤوليات، وتناغم الرؤى في توجيه بوصلة العمل المؤسسي نحو تحقيق أولويات الرؤية وأهدافها، لذلك يتوقع مع وجود هذا الفضاء الإعلامي المحاور للمواطن والمستمع إليه والموظف لإمكاناته، أن تضعف أنماط السلطوية وسيادية المؤسسات في عمليات التنفيذ والالتزام، كما يقل حجم الهدر والفاقد المؤسسي الناتج عن تصادم المصالح والبيروقراطية، والارتجالية في القرار المؤسسي.
إن من شأن وجود مسار إعلامي متخصص يتناغم مع مقتضيات الرؤية ويترجم أهدافها ويجسِّد محاورها ومشروعاتها، ويعكس صورة التمازج الوطني بين محاور الرؤية وآليات تنفيذها وأدواتها، أن يسهم في تهيئة المواطن نفسيا وفكريا ومفاهيميا وقانونيا لفقه الرؤية، واستيعابه لمعطياتها ونواتجها في الواقع الاجتماعي والاقتصادي، والتغيير الذي يجب أن يطرأ على سلوكه ومواقفه ومسؤولياته القادمة، وفق برامج إعلامية ناضجة قادرة على نقل الرؤية إلى فكر المواطن وقناعاته ومبادئه وعقيدته الوطنية لتنطبع مكوناتها على حياته اليومية، كما يتجه إلى منظومة الجهاز الإداري للدولة، وثقافة العمل وقِيَمه، وأخلاقيات المهنة، وتأصيل قِيَم النزاهة والمحاسبة والمساءلة وترجمتها في خطط المؤسسات وأدوات العمل وآليات التعامل وأساليب الإنجاز وطرائق التنفيذ للمشروعات والبرامج، وفي التعاطي مع الأزمات المحتملة والسيناريوهات المتوقعة، وأن يدرك المواطن موقعه في الرؤية، سواء من حيث الأدوار التي عليه القيام بها، أو جوانب الدعم التي يوفرها في ظل طبيعة السيناريوهات المطروحة، لتبرز هوية الرؤية في كونها فلسفة عمل تتسم بالتقنين والفاعلية والتفاعل وفق مساحة من الأريحية والأمان والتناغم في كل تراكيبها ومفاهيمها وقيمها ومبادئها؛ منطلقة من تعددية الأدوات وتنوعها، واكتمال البنية المعرفية والتشريعية للرؤية، وتقييم نواتج إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة على مرونة إنجاز أولويات الرؤية، في ظل مصداقية الهدف، ودقة التطبيق للأدوات، ووضوح تنفيذ الاختصاصات، والتزام مبدأ الثقة في الكفاءة العمانية والخبرات الوطنية والانطلاقة منها في تعزيز الأداء الحكومي الكفء.
وعليه، فإن إشارة الخطاب السامي لجلالة السلطان المعظم ـ في العيد الخمسين للنهضة ـ إلى تعاظم المسؤولية الوطنية في تحقيق أهداف الرؤية وأولوياتها، بقوله: “إن إنجاح هذه الرؤية مسؤوليتنا جميعا دون استثناء، كل في موقعه، وفي حدود إمكاناته ومسؤولياته”؛ محطة لالتقاط الأنفاس لعمل أدوم، وعطاء أقوم، ونهج أسمى أساسه حضور المواطن في فلسفة الرؤية وأولوياتها، بحيث يجد في هذا الفضاء الإعلامي المتخصص مساحة له للتعبير عن رأيه، والإفصاح عن هواجسه، وإثراء الرؤية بأفكاره وتجاربه وخبراته، والعمق في تحليل الواقع ودراسته، بما ينقل المواطن من حيز الاستهلاك السلبي لمخرجات الرؤية، إلى أن يمتلك حدس التوقعات، ويشخص الواقع، ويتفهم الوضع، وتصبح الرؤية بذلك بوصلة عمل لضبط الموارد، وتوفير البدائل، وتوظيف الفرص، وإنتاج الحلول، وفق استراتيجيات قائمة على البحث العلمي، والتحليل، واستمطار الأفكار، وشراكة المواطن للحدِّ من حالة الإخفاقات والتنازع في الاختصاصات، وتوحيد الجهود وتقليل الهدر في الوقت والجهد وتضييق مساحة الاختلاف، والتوظيف الأمثل للموارد والإمكانات والفرص الوطنية، الاقتصادية منها والاجتماعية والفكرية والثقافية والسياسية وغيرها، وحسن استغلالها، وتشجيع المواطن على اكتشاف الفرص وامتلاك مهارات المرحلة، وضبط العمليات الداخلية للمؤسسات وفق مرجعية وطنية تعبِّر عنها وحدة متابعة وتنفيذ رؤية عمان 2040، الصادرة بالمرسوم السلطاني (100/2020)، بحيث تعمل كرافد داعم لجهود المؤسسات، في كفاءة الأداء، ومراقبة التصرفات، واستلهام منابع العطاء، وتقييم مستوى الانحرافات، بما تحتاجه من الصلاحيات الرقابية والضبطية والتطويرية التي تساعدها على تشخيص الواقع، والوقوف على التحديات، وتحديد محطات الإنجاز ومقومات النجاح، بالإضافة إلى تحقيق التوازن بين محاور الرؤية جميعها بلا استثناء بحيث لا يطغى جانب على آخر، أو أن يؤدي الاهتمام بأحدها إلى تهميش محاور الرؤية الأخرى، وضمان أن عملية التنفيذ تسير بشكل متوازن ومتناغم ومتكامل، في إطار عمل منظم يقوم على تبادل المعلومات وانسيابيتها، وكفاءة المدخلات والعمليات، ووضوح فلسفة العمل ومحطات الإنجاز.
ويبقى وجود هذا الفضاء الإعلامي الوطني المتخصص للرؤية، مساحة للحوار الناضج والتفاعل الحي والتشخيص السليم والتحليل الدقيق والمتابعة المستنيرة لتنفيذ أولوياتها، فلا يفهم منها الوقتية والمزاجية والتسويق الشكلي لبرامج الرؤية، بل الدخول في العمق، وقراءة حركة التفاعلات الداخلية الحاصلة في المجتمع في العقدين القادمين، فهو طريق الرؤية إلى العالمية وصوت المواطن للتعبير عن ذاته، فيقف على مواقع الإنجاز المتحققة في مشروعات البنية الأساسية والخدمية والسياحية أو غيرها، وعبر إحصائيات دقيقة ومؤشرات تحدد تفاصيل الإنجاز، والفرص التي يحققها للمواطن، كما يقف على التشريعات والضوابط والاشتراطات والجهود التي تبذل في سبيل تبسيط الإجراءات وتقليل الهدر، وتعميق روح المسؤولية، وضبط الموارد، واستغلال الثروات، والمحاسبة والمساءلة عن أي انحرافات قد تضر بأولويات الرؤية، كما يوفر قاعدة بيانات متكاملة بالخبرات المتخصصة والتجارب المجيدة، وتشجيع أصحاب النتاج العلمي الرصين من الكتَّاب والباحثين والمطوِّرين والمبادرين وذوي الاهتمام وأساتذة الجامعات، والمبتكرين في مجالات الرؤية ومحاورها، والمؤثرين في المنصات التواصلية، في تعزيز تفاعلهم مع خطط المؤسسات، وتجاوبهم مع ما تطرحه في واقع عملها، لضمان دعم المؤسسات بهذه الخبرات والتجارب الوطنية، مع الأخذ في الاعتبار التحديات التي أفرزتها جائحة كورونا (كوفيد19) كمدخل للإصلاح، وتسليط الضوء على أفضل الممارسات الوطنية وتعزيزها، وتوسيع قاعدة الاستفادة منها وإتاحة الفرص لتداولها بين المؤسسات، هذا الأمر من شأنه أن يوفر نماذج عملية وطنية مجربة وإدماجها في عمل المؤسسات، وتعزيز المبادرات المجيدة والنماذج العملية القادرة على سبر أعماق الواقع والدخول في تفاصيله وبناء تشريعات أكثر نضجا، وسياسات تتسم بالعمق والمهنية والبعد الاستراتيجي وتعمل على خلق مساحات عمل لنجاح رؤية “عمان 2040″ تتسم بالقوة والرصانة والتفكير خارج الصندوق، وتوفير بدائل أوسع وسيناريوهات بديلة للقطاعات الأخرى المتعثرة أو التي ما زالت تراود مكانها.
أخيرا، فإننا اليوم في مرحلة حاسمة لا مجال فيها للتحليق خارج سرب الوطن وأولوياته، أو الانتظار بما يفصح عنه المستقبل في ظل معطيات جائحة (كوفيد 19)، وأن يعمل هذا الفضاء الإعلامي الواسع المتخصص بكل أشكاله التعبيرية والثقافية والإعلامية على كشف الأوراق، وقراءة ما بين السطور بشفافية ووضوح، وإعطاء المؤسسات التي تشهد تراجعا في أدائها إشارات إنذار بتحسين وضعها، وترتيب أولوياتها، وإعادة هندسة واقعها مستفيدة من الفرص والحزم التحفيزية التي وفرتها الحكومة في هذا الشأن، لذلك فهو أكبر من مجرد إضافة قناة إذاعية أو تلفزيونية، او صحف يومية إلكترونية وورقية؛ بل فضاء إعلامي تتجلَّى فيه كل القيم والأخلاقيات ومنهجيات الحوار ومصداقية الكلمة وروح الخطاب، وتفتح للمواطن والشباب فيه فرصا أكبر للتعبير عن هواجسه وهمومه، وطموحاته وتوقعاته، وطرح آرائه بكل أريحية وفي إطار من الثقة والشراكة والاحتواء وحس المسؤولية، وعبر توظيف الفنون الإعلامية لتعبِّر بمهنية وشفافية ومصداقية عن غايات رؤية عُمان وروح التغيير التي يجب أن تسري في تفاصيل الحياة اليومية، بحيث تجسدها ثقافة عمل المؤسسات والمسؤول الحكومي والموظف، كما تستنطقها أخلاق المواطن ومبادئه وقِيَمه وسلوكه وردود أفعاله وقناعاته بما يطرحه عبر الفضاءات الإعلامية الواسعة حول الرؤية ومحاورها وإنجازاتها ونجاحاتها وجوانب التطوير والتحسين التي تحتاجها لتسير سفينة العمل وفق الهدف، وتتجه لبناء عُمان المستقبل بكل ثقة وكفاءة واقتدار.
المصدر: اخبار جريدة الوطن