ينطلق تناولنا للموضوع من جملة الموجهات التي ينبغي إثارتها في ظل المستجدات الحاصلة في جائحة كورونا (كوفيد19) وتأثيراتها على الشأن الوطني، والفرضية الناتجة عن القيمة المضافة لمراكز الرصد والإحصاء الوطني في استثمار مبدأ “خليك بالبيت” الناتجة عن بقاء السكان في منازلهم، في رسم ملامح تحول إيجابية قادمة، تضع حدا للأفكار السلبية التي باتت تُطرح بشكل مستمر حول استمرار الفيروس لشهور طويلة وسنوات قادمة، واحتمالية تطوره بشكل آخر أكثر فتكا وقتلا للبشرية، وبالتالي متطلبات الاستعداد للمرحلة القادمة بعد استنفاد كل الإجراءات والتدابير الاحترازية التي اتخذتها الدول في التعاطي مع انتشار المرض؛ والإجراءات والتدابير الأخرى التي لم تفعل بشكل مناسب وهي بحاجة إلى المزيد من عمليات التأطير والتقنين والتنظيم والتفعيل والدفع بها لخدمة هذا الغرض وإعادة آليات التعامل مع هذا الهاجس بالاستفادة من الرصد المعلوماتي والإحصائي وقياس الرأي العام في الوقوف على منظومة الوعي المجتمعي الذي بدأت الشكوك تتجه حوله، وما يُثار من أن رهان الحكومات على وعي المواطن لم يحقق النتائج المأمولة منه، وبالتالي إعادة ظهور للقطاعات الغائبة في أكثر الأحايين عن الواقع الجديد الذي فرضه كوفيد 19، وأعني هنا ـ مراكز الرصد والإحصاء ومختبرات التحليل الإعلامي الحكومية منها والخاصة ـ والمأمول منها اليوم تصحيح بعض المفاهيم والأفكار السائدة حول الوعي وقياسه وإنتاج بدائل جديدة أو توفير ضمانات معلوماتية تتيح مساحة من الإيجابية والتفاؤلية لانطلاقة أفضل في تقييم الوضع وتشخيص الحالة وإعادة إنتاجها تبعا للظروف المتجددة التي فرضتها الأفكار التشاؤمية حول مستقبل الشعوب والمجتمعات في ظل أحداث هذه الجائحة، والبحث عن اليات وطنية لاستمرار الحياة واستدامة العمل في الأنشطة الحياتية الاقتصادية والاجتماعية وغيرها بدون توقف حتى مع وجود الفيروس، وبالتالي التفكير الابتكاري في آليات جديدة وأدوات متجددة قادرة على الحفاظ على مساحة الالتزام بالإجراءات والتدابير الاحترازية قائمة وفي الوقت نفسه تعمل على إنتاج الحياة اليومية واستمرارية الأعمال؛ والقيمة المتحققة من توظيف مراكز الرصد والإحصاء وقياس الرأي العام ومختبرات التحليل الإعلامي لجائحة كورونا (كوفيد 19) في استثمار فرص تواجد الأسر في المنازل للدخول في عمق الممارسة الأسرية والاجتماعية واستقراء منظور الوعي منها وتبني أو تجريب حلول أخرى أكثر يقينا بقدرتها على صناعة الفارق.
لقد ارتبطت أحداث كورونا بنشاط عالمي غير مسبوق في اتخاذ الإجراءات والتدابير الاحترازية للحد من انتشار المرض بين السكان، وهو نشاط ـ كما تراه منظمة الصحة العالمية ـ ضروري يتناسب مع حجم هذه الجائحة والظروف التي ارتبطت بها، والمتغيرات التي أسهمت فيها، والتأثيرات الناتجة عنها؛ لذلك كان العمق في سبر أعماقها خصوصا في ظل الاستثنائية المرتبطة “بالبقاء في المنزل”، وما فرضته من مفاهيم جديدة وضعت العالم خلالها أمام مسؤولية البحث عن إطار لعملها في الواقع حتى وإن تباينت مع المعتاد من السلوك والمتبع من الممارسات، وعادات الشعوب وأساليب العيش وآليات التعامل والمفردات وأشكال التعابير الحياتية المختلفة، كل ذلك وغيره تطلّب المزيد من التأطير المفاهيمي لها والفهم المعمق لمدلولاتها والقراءة الاستشرافية لما تحمله من مضامين والتي تضع تفعيل مراكز الرصد والإحصاء والتحليلي خيارا استراتيجيا في حلحلة هذه التكهنات وتصحيح المسارات وترسيخ معايير الثقة فيما يصدر من معلومات حول مرض كورونا وطريقة استخدامها والموثوقية فيها؛ ليكون التعبير في أصدق حالاته وأنضج معطياته وأدق تفاصيله، والأحكام تتسم بالواقعية في ظل هذه الظروف النوعية التي تعيشها البشرية، وبالتالي ما يمكن أن تؤسسه مراكز الرصد والإحصاء ومختبرات التحليل المعلوماتي والإعلامي وغيرها من أدوات التشخيص والتقييم والرصيد والمتابعة والمسوحات واستطلاعات وقياس الرأي العام من مصداقية أكبر في إزالة حالة الضبابية والتشاؤمية التي تغلَف هذه الجائحة.
وبالتالي تطرح حزمة الإجراءات والتدابير الوقائية والاحترازية التي اتخذتها السلطنة في الحد من انتشار فيروس كورونا (كوفيد 19)، وما تتطلبه المرحلة المقبلة في ظل تزايد انتشار المرض، والتوقعات باستمرارية بقائه لفترة أطول على الرغم من الجهود النوعية المبذولة من كل القطاعات لاحتواء الفيروس وتطبيق الإجراءات الداعمة لمنع انتشاره، تطرح أهمية البحث في تفعيل أكبر لخطوط التأثير الإعلامية والثقافية والفكرية والتوعوية والتثقيفية القادرة على ضبط مسار الوعي وتقنين أرصدة النجاح المتحققة منه في الواقع الاجتماعي، ولما كان الأمر بحاجة إلى مزيد من الثقة فيما يطرح من معلومات وأفكار حول هذا المرض، وشفافية أكبر بالواقع الذي نعيشه اليوم بعد مرور أكثر من شهرين على بدء تفعيل الإجراءات، والحدس بممكنات المستقبل المنظور لتلاشي هذه الجائحة، لذلك كانت الحاجة إلى العمل على تفعيل دور مراكز الرصد ومختبرات الإعلام بالشكل الذي يضمن الوصول إلى مسارات عمل مشتركة يدرك فيها الجميع طبيعة المرحلة، والدور الذي يجب أن تقف عليه في سبيل زوال هذه الجائحة، على أن التأكيد على أهمية تفعيل هذه المنصات لا ينبغي أن تظل في مساحتها الضيقة مجرد تقديم معلومات أو توصيات أو بيانات خام، بل هي أدوات استراتيجية لإعادة توجيه المسار وضبط الانحرافات الحاصلة في العمل ـ إن وجدت ـ وبشكل خاص فيما يتعلق بتصحيح نظرية “الرهان على الوعي المجتمعي”، والوقوف بشكل أكبر على موضع الخلل ومحددات العمل القادم، وبالتالي ما يمكن أن تقدمه من حلول للتحديات ونماذج واقعية للعمل وبدائل ومبادرات تعيد النظر في بعض إجراءات المراحل السابقة وتستفيد منها بالشكل الذي يضمن انطلاقة أفضل لمرحلة التحول القادمة في التعامل مع المرض، والتي تقوم على معادلة الاستمرارية في الحياة مع فرضية بقاء الفيروس ولكن بوتيرة أقل، وانطلاقة الناس لأعمالهم مع الاستمرار في تقديم جرعات أكثر عملية وتقنينية واتساعا وانتشارا في طبيعة الإجراءات المتبعة على المستوى الشخصي والأسري والمجتمعي والمؤسسي، بما يعني أننا بحاجة ماسة اليوم إلى العديد من التوجهات التي تؤسس لدور أعمق لمراكز الرصد وتحليل المعلومات وقياس الرأي العام في استيضاح كل الجهود ورسم مسارات العمل القادمة وتقييم كل الإجراءات السابقة المتبعة ومستوى القوة والتأثير والحضور لها في واقع المعالجة، بحيث تستهدف المرحلة القادمة وضع اليد على الجرح، وتحديد موطن التحدي الذي تسبب في زيادة انتشار المرض من غيره وتصنيف هذه الأسباب ودرجة تأثيرها بكل شفافية ووضوح ونقل الصورة للرأي العام على حقيقتها بدون أية تدخلات؛ سواء ما يتعلق منها بالسلوك الاجتماعي أو النشاط الاقتصادي أو الممارسة المجتمعية أو حتى نمط التداول المعلوماتي المتعلق بفيروس كورونا (كوفيد 19)، ويدخل ضمن ذلك أساليب الخطاب والإشاعة وحجم التهويل للمعروض من المعلومات في التعاطي مع هذا الواقع، لإزالة حالة اللبس، والتكهنات التي نتوقع بأنها أسهمت سلبا في التقليل من قناعات المواطن الإيجابية وثقته في نفسه، وما اتخذه أو التزم به من إجراءات في الفترة السابقة، وما يمكن أن يتخذه من إجراءات أخرى داعمة إلى جهود الدولة تضاف إلى ما سبق من تدابير احترازية ووقائية.
وعليه فإن من شأن هذا الحضور النوعي لمراكز الرصد والإحصاء ومختبرات التحليل واستثماره لفرضية البقاء في المنزل أن يقدم نماذج عمل تطبيقية قادرة على سبر أعماق الواقع والدخول في تفاصيله وبناء تشريعات أكثر نضجا تقف في وجه التجاوزات وحالة الاستهتار التي يشار إليها عند الحديث عن زيادة عدد الحالات واستمرار بقاء الفيروس في نشاطه على الرغم من تعدد الإجراءات الاحترازية المتخذة في هذا الشأن، بما يعزز من تبني سياسات تتسم بالعمق والمهنية والاستراتيجية والتطبيق الفاعل للقانون والمحاسبية والمساءلة لمثل هذه الممارسات المعبرة عن حالة الاستهتار، بحيث تعمل على بناء منصات عمل تتسم بالقوة والرصانة، وتتيح من فرص التفكير خارج الصندوق، وتعطي ضمانات أوسع وسيناريوهات بديلة لتوفير حزمة جديدة من الإجراءات التي تراعي كل المتغيرات الاجتماعية والنفسية والمهنية والأسرية الناتجة عن هذا المرض، وتوفر مساحة أكبر للتفكير في آليات جديدة للمعالجة وتكوين وسائل وأدوات متجددة للتطبيق ونماذج محاكاة عملية لرسم سيناريوهات الواقع وإنتاج معالجات أوسع وأفضل استيعابا للحالة، بالشكل الذي يضمن لهذه الجهود الإنتاجية والكفاءة والمعيارية وتوجيهها نحو صناعة قرارات أكثر ارتباطا بمجريات الأحداث من شأنها أن تضع المواطن والمقيم أمام فهم معمق وإدراك تام بالقيمة المضافة للقرارات والإجراءات التي اتجهت إليها الحكومة وعبر اللجنة العليا المكلفة ليصنع لها حضورا نوعيا والتزاما جديا واهتماما يفوق الوصف ويتجاوز الشكليات.
إن تعظيم القيمة المضافة لمراكز الرصد والإحصاء والتحليل المعلوماتي، سوف يعزز من قيمة البيانات الرصينة حول كورونا (كوفيد19) المتجهة إلى التشخيص والتحليل والعمق، ويقلل من رتابة المعارف والمعلومات السطحية والعشوائية التي تأخذ من الإشاعة طريقها للنمو والانتشار والاتساع بين أوساط المجتمع، وبالتالي ما يمكن أن تقدمه من حماية للبيانات الأصيلة والمعلومات الصحيحة والأفكار الصادقة التي تُبث حول جائحة كورونا مدعومة بالشواهد والأدلة والإحصائيات والبيانات مستشهدة بلغة الأرقام التي صنعتها استجابات المواطن للتساؤلات المطروحة والأدوات المعروضة عليه واستطلاعات الرأي وقياس التوجه العام الذي يحمله حول المرض نفسه والممكنات التي يستخدمها في سبيل تقوية عنصر الالتزام لديه بالقرارات، وهو ما يعزز من مصداقيتها، ويؤسس لمرحلة القوة في هذه البيانات التي تعتمد عليها مؤسسات الدولة الإعلامية وتصريحات المسؤولين في اللجنة العليا المكلفة في التنبؤ بمستقبل المرض والحدس به، لضمان أن تكون التصريحات الإعلامية قائمة على الاستفادة الفاعلة من البيانات الضخمة وحسن التوظيف الأمثل لها وإعادة إنتاجها بطريقة تتناغم مع الظروف السائدة في المجتمع وبما يضمن قدرتها على التأثير الإيجابي والانعكاس المقنن لها على سلوك المواطن، بما يصنع للمعلومات النوعية الكفؤة الواردة في هذه التصريحات مساحات القوة في الاتجاه للتغيير والاستمرار في الإنجاز ويرفع من منحى التفاؤلية والإيجابية في خط سير المرض وانتقاله إلى مرحلة الاحتواء المجتمعي له، لذلك نتوقع بأن سيل المعلومات والأخبار والتناقل الحاصل لها حول الفيروس؛ إنما هو نتاج للقصور في دور ما أشرنا إليه من مراكز الرصد والإحصاء ومختبرات التحليل الإعلامي، التي تمتلك حس المعرفة وفقه إنتاجها وسرعة التأثير في الرأي العام، قادرة على الإفصاح عن الحالة الوطنية بكل أريحية ومهنية وبدون تكلف، وتعطي دلائل ومؤشرات عمل بانحسار الحالة وزوال الغمة، وبالتالي وجود التحديث المستمر للمعلومات والأخبار بصورة أكثر شفافية سوف يضمن لها مساحة أكبر من الاعتراف المجتمعي ويلغي فرضية اعتمادها المطلق على تقدير المسؤول والاجتهادية الشخصية أو المقارنة مع السلوك العالمي الحاصل في الفيروس والذي نعتقد بأنه قد لا يعطي دلالات صحيحة ومؤشرات واضحة تقرأ البعد المستقبلي لهذا المرض وتحدد مساره والمدة الزمنية التي يقضيها والمتغيرات المصاحبة له في كل المراحل.
من هنا تأتي أهمية أن تؤدي مراكز الرصد الاجتماعي والاقتصادي والإعلامي والثقافي والفكري والديني والأمني، بالإضافة إلى مراكز المعلومات الوطنية ودوائر الإحصاء بالمؤسسات في تقديم مائدة ثرية وتوجهات إيجابية تصنع ملامح التغيير القادمة وتعكس المرحلة التي تعيشها عمان في التعاطي مع هذا المرض، وأن تبادر جميعها إلى خلق شعور إيجابي كنتاج لما تقدمه من مبادرات وتطرحه من وجهات نظر وتؤسسه من مسوحات لتقييم الحالة من مختلف الزوايا وتتعايش مع كل الظروف التي تعيشها الأسر مستفيدة من وجودها في المنزل في تقديم مساحات تثقيفية وتوعوية تقدم بدورها فرصا أكبر لاستنهاض الوعي، واستنطاق القيم والتوجهات الوطنية، وبتكاملها تصنع مرحلة القوة في مسار العمل الوطني الموجه لهذه الجائحة، التي تبرز في نجاح عمليات الرصد وقدرة المجتمع على تنشيط ذاكرته الحضارية فيما يتعلق بالتشخيص المعلوماتي ونهضة الأفكار والاكتشافات الطبية والدوائية أو الصناعات الإنتاجية أو إيجاد البدائل الداعمة لاستمرارية الأعمال والمسؤوليات والسماح للأسر بممارسة نشاطها الحياتي اليومي مع المحافظة على كفاءة التزامها وتقيدها بإجراءات والاحترازيات، إذ سيقدم ذلك مساحة أوسع للتفكير في أكثر من بديل وإنتاج أكثر من حل يمكن أن يساعد الحكومات في هذا الجانب.
عليه، ومع استنفاذ الوسائل العالمية المعتمدة أو المقررة من منظمة الصحة العالمية بشأن الإجراءات التي تتخذها الدول والحكومات في الحد من انتشار فيروس كورونا (كوفيد 19) بين السكان خصوصا ما يتعلق منها بإجراءات التباعد الاجتماعي والجسدي والعزل الصحي، واتفاق دول العالم على هذه المشتركات مع تباينها في عمليات التنفيذ ونفاذ القانون في حماية هذه الإجراءات؛ فإن استمرار الفيروس وتسارع انتشاره يطرح على الدول جهودا فردية ومبادرات ذاتية وخطوات استباقية وحوارات داخلية مع مواطنيها والقاطنين عليها، ودورا أكبر لخطوط التأثير المجتمعية التي تسهم في بناء جسور تواصل واتصال وتناغم بين السياسات المعتمدة والبرامج المنفذة، بشكل يراعي الخصوصيات الوطنية والظروف التي تعمل فيها وتحافظ على ممارسة المواطن لسلوكه الاجتماعي بكل أريحية مع الاستمرار في توفير الممكنات الداعمة لنمو سلوك وقائي داعم لاستمرارية العمل ومباشرة المهام، وبالتالي دور مراكز الرصد ومختبرات التحليل الإعلامي في زيادة الوعي وقراءة ملامح التغيير التي يمتلكها المواطن ومستوى إدراكه للمعطيات الحاصلة ومدى وصول ما تطرحه حول المرض إلى العقل الباطن لديه واستيعابه له، وقدرته على التكيف مع ما تصل إليه هذه المنصات من نواتج قادرة على تحقيق استجابات لها على الأرض. فهل ستبرز في قادم الوقت مدخلات هذا الطرح في تفعيل جهود مراكز الرصد والإحصاء ومختبرات التحليل الإعلامي لتقوم بدورها الحيوي والخطير في الحد من حالة التشاؤمية والاستهتار بمسارات الوعي والمستوى الذي حققه المواطن فيها؟ أم ستظل في عزلتها وأبراجها العاجية التي تقبع فيها، وصفة الانسحاب التي اتجهت إليها في أحلك الظروف وأصعب المواقف التي يحتاجها فيها الوطن والمواطن، محرجة من عدم امتلاكها ممكنات التنفيذ وموجهات المبادرة؟
المصدر: اخبار جريدة الوطن
أنت هنا: الرئيسية / اخبار جريدة الوطن / في العمق: هل أحرج (كوفيد 19) جاهزية مراكز الرصد والإحصاء الوطنية؟