(1) في منتصف السبعينات , كتب نزار قباني كتابا شهيرا بعنوان ” الكتابة عمل انقلابي ” يتحدث عن كون الكتابة عملا غير اعتيادي وأنها فن التورط و الخروج عن المألوف , بعيدا عن التعليب و القوالب الجاهزة ..
في منتصف السبعينات و في الضفة الأخرى من العالم , كانت هناك عدد من المحاولات الفاشلة في الذكاء الاصطناعي بمفهومه الحديث في جعل الآلة تتعلم لتفكر و تؤدي مهام محددة لتساعد الأنسان ,, هذه الأبحاث تطورت مع الوقت لتصبح واقعا حقيقا غير جزءا كبيرا من العالم في كل الصناعات و القطاعات و الحياة الاجتماعية. و من أهم هذه الصناعات التي تدخلت فيها الآلات و تقنيات الذكاء الاصطناعي هي الكتابة بمفهومها الواسع و تطوير المحتوى بالذات في قطاع الإعلام و التسويق.
(2) في قطاع الإعلام ولد مؤخرا مصطلح (Robojournalism ) أي استخدام الروبوت في صناعة المحتوى الصحفي. 75% من هذه المنصات الإعلامية بحسب دراسة أعدتها رويتر بدأوا باستخدام الذكاء الاصطناعي بشكل حقيقي في صناعة المحتوى الذي يشكل العمود الفقري للإعلام
في الربع الأول من عام 2017 , استطاعت وكالة اسوشيتد برس من كتابة 4000 قصة وخبر صحفي عبر استخدامها لما يعرف بتقنية توليد النصوص اللغوية ( NLG ) وهي أحد فروع تقنيات الذكاء الاصطناعي . و بالتحديد باستخدام أداة ( Automated insights . )
منصات إخبارية عريقة أخرى تعمل على مشاريع تقنية متقدمة لتطوير عملية استخراج المحتوى الاخباري و كتابة القصص و الأخبار الصحفية , مثل واشطن بوست التي طورت مفهوم الصحافة الآلية (Automated Journalism ) و استخدمت هذه التقنيات لتحليل الاخبار المتعلقة بأولمبياد ريو دي جانيرو في البرازيل. أيضا منصة CNN تستخدم نظام شات بوت أو الشات الآلي لإرسال تقرير يومي لحسابي في فيسبوك مسنجر عن أهم الاخبار التي تهمني بناء على اهتماماتي , كذلك تقوم صحيفة الجارديان بذات الشيء , أما صحيفة نيويورك تايمز فهي تعمل أيضا على تقليص عمليات بناء القصص الصحفية و الأخبار عبر مشروع Editor والذي يقوم على تحليل المحتوى و فهمه عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي و تعلم الآلة.
(3) في التسويق يختلف الوضع قليلا .. فالمحتوى ليس عمودا فقريا للتسويق و لكنه يعتبر ركنا مهما في العملية التسويقية , و خاصة في التسويق الرقمي , و تعتبر وظيفة كاتب المحتوى التسويقي إحدى الوظائف المهمة و التي بدأ الطلب يزداد عليها مؤخرا في السوق المحلي و لكن المفارقة أن هنالك دراسة من شركة Gartner العالمية المختصة في أبحاث التقنية , تقول أن 20% من الشركات الأمريكية ستعتمد على الآلات لكتابة المحتوى التسويقي في عام 2018 ….
المحتوى في التسويق الرقمي لا يتوقف عند عملية الكتابة فقط , بل يتجاوزها إلى التخطيط لبناء المحتوى (Planning) والتي تبدأ بوضع الأهداف و تحديد صفات الجمهور المستهدف لهذا المحتوى , تحليل محتوى المنافسين , اكتشاف المواضيع التي يميل لها الجمهور المستهدف , و تقسيم الجمهور المستهدف .. هذه الأنشطة التي تندرج تحت عملية التخطيط للمحتوى أصبحت أسهل و يتم العمل عليها بشكل مبتكر مع تطور الأدوات التي تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي .
شركة Hubspot مثلا تتيح أداة لتقسيم المواضيع (Topic Clusters) التي تساعد فريق المحتوى على معرفة أكثر المواضيع بحثا من قبل الجمهور المستهدف , اقتراح مواضيع ملائمة لهم , و عناوين أيضا ملائمة لمحركات البحث لتعزيز ظهور المحتوى في محركات البحث و جذب زوار أكثر (SEO). أداة ( Cryon ) أيضا تقدم تحليلا للمنافسين و محتواهم على الانترنت . كما تقدم أداة (Buzzsomo) العظيمة آلية جميلة لتحليل المحتوى الحالي في الانترنت و اقتراح محتوى مناسب بكافة أنواع المحتوى.
في المحتوى التسويقي تأتي عملية إنتاج المحتوى و صناعته وكتابته كخطوة رئيسية بعد التخطيط أو ما يعرف ب (Content Production). أدوات مثل (Wordsmith) التي تستخدم تقنيات ( NLG ) أحد فروع الذكاء الاصطناعي لكتابة مقالات , تقارير , تحليلات وأكثر و غيرها أداة (WordAI) و منصة (Narrative Sciences ) الشهيرة التي تقدم حلولا متنوعة في تقنيات كتابة المحتوى , منصة أخرى رائعة (Curata) تساعد فريق المحتوى على البحث عن أفضل محتوى مناسب و المساعدة في كتابته و قياس نتائجه أيضا, تنافسها في ذلك شركة (Acrolinx) التي تركز على استخدام تقنيات مقدمة جدا في الذكاء الاصطناعي لمساعدة فرق تطوير المحتوى في الشركات الكبيرة على تحليل المحتوى , و رأي الناس تجاهه بشكل إيجابي أو سلبي و تحليل النصوص والقواعد اللغوية و اقتراح محتوى ملائم و فعال.
في المقابل طورت شركة (Phrasee) منصة جيدة لتحسين المحتوى التسويقي عبر البريد الإلكتروني و ذلك عبر استخدامها لتقنيات الذكاء الاصطناعي التي تقوم بدورها باقتراح عناوين ملائمة لحملات البريد الإلكتروني بشكل ملائم لسلوك و صفات الجمهور المستهدف من كل حملة تسويقية , هذه المنصة ساهمت في تحسين حملات التسويق عبر البريد الإلكتروني لشركة دومينوز بيزا بأكثر من 57% بعد شهرين من استخدامها و حققت 753% عائد على الاستثمار من هذه الحملات.
أكثر ما يميز المحتوى التسويقي عبر المنصات الرقمية هي خاصة التخصيص أو بناء محتوى يتفق مع سلوك المستهلك على الانترنت و يتغير مع طبيعة تغير هذا المستهلك . في المنصات التسويقية التقليدية كالتلفاز و الصحف يتم بناء المحتوى بشكل واحد لكل الجمهور المستهدف , ذات الشيء يتكرر في معظم محتوى الصحف الإلكترونية و معظم المواقع التسويقية و المتاجر الإلكترونية التي تعتمد على محتوى واحد لكل زوار الموقع , وصف واحد للمنتجات و الخدمات , عرض أسعار ثابت لا يتغير بتغير سلوك العملاء .. هذا ما يتميز به المحتوى التسويقي عبر القنوات الرقمية , أو ما نسميه (Content Personalization ) و نقصد فيه استخدام تقنيات متقدمة في بناء المنصات الرقمية بحيث يتم تغيير المحتوى بتغير سلوك المستهلك و طريقة بحثه و عرضه و تاريخ بياناته و اهتماماته أيضا. تفعلها دائما نتفلكس بعرض محتوى مناسب لسلوكك البحثي على منصتها , يوتيوب تعمل ذات الشيء و أمازون تقترح عليك منتجات و محتوى مناسب لسلوك كل عميل على حده , المحتوى المكتوب على زر الشراء يتغير أيضا بشكل ديناميكي و الأسعار أيضا تتغير بتغير زائر المنصة الرقمية.. حتى طريقة الترحيب في نافذة المحادثة الفورية و الرد الآلي (Chatbot) تتغير بتغير الزائر أيضا , فمثلا قد تكون نص الرسالة في المحادثة الفورية باللغة الدارجة إذا كان زائر الموقع من جدة و تتحول إلى لغة أخرى لزائر آخر . منصة مثل (OneSpot) تستخدمها كثير من الشركات العملاقة لتطوير المحتوى و جعله ديناميكي و مناسب لكل شرائح المستخدمين بشكل ملهم وعلى كافة المنصات الرقمية ( مواقع التواصل , الموقع الإلكتروني , و البريد أيضا ) من خلال تحليل سلوك الزوار و اهتماماتهم و تاريخ زياراتهم السابقة
بعد عمليات التخطيط و التطوير و تخصيص المحتوى , تتأتي مرحلة الترويج للمحتوى (Content Promotion) سواء عبر البريد الإلكتروني أو منصات مواقع التواصل الاجتماعي و المواقع الإلكترونية و التي أصبح لتقنيات الذكاء الاصطناعي دور كبير فيها خاصة فيما يعرف بــ (Programmatic Ads) بالإضافة لطرق الاستهداف و إعادة الاستهداف (Retargeting) سواء عبر منصة قوقل الاعلانية أو منصات فيسبوك و تويتر أو عبر أدوات مثل أداة (Adroll) التي تستطيع عبرها التنبؤ بالنتائج المتوقعة للحملات الترويجية و التسويقية و معدل الوصول و التفاعل و اقتراح أوقات النشر في مواقع التواصل أيضا وحتى معدل المبيعات المتوقع
في الخطوة الأخيرة من خطوات بناء المحتوى عبر المنصات الرقمية تأتي خطوة القياس وتحليل نتائج المحتوى و مدى الوصول و تفاعل الجمهور معه , وهنا يلعب الذكاء الاصطناعي و تقنيات تعلم الآلة التي تحلل هذا المحتوى و كافة البيانات المتعلقة به لتقوم بعد ذلك تقنيات كتابة المحتوى القائمة على الذكاء الاصطناعي بكتابة تقارير الأداء بشكل لطيف و اقتراح تحسينات للخطوات القادمة كما تفعل أداة ( PaveAI ) التي استخدمها شخصيا عبر ربطها مع بعض أداوت التحليل لتقوم بكتابة تقرير جميل عن أداء المحتوى التسويقي و الجمهور التسويقية و كتابة مقترحات للتحسين و التعديل أيضا , ذات الشيء تقدمه أداة (Wordsmith) التي ذكرتها سابقا ..
(4) هذه الأدوات و المنصات التي تقوم على استخدام فعال لتقنيات و فروع الذكاء الاصطناعي ساهمت في تقليل تكاليف الجهود التسويقية و التحريرية بشكل كبير جدا للشركات. ولكنها أصبحت تشكل كابوسا حقيقيا لصانعي المحتوى التسويقي أو الإعلامي في العالم , بل أنها سرقت الدهشة الأولى , دهشة الكتابة في الصحافة, لحظة الفرح الأولى بنشر مقالتك في صحيفة ورقية كانت أم رقمية, فلم يعد هنالك مكان للدهشة الأولى في عصر الآلة . وقد تختفي لغة الكتابة التي كان يبشر التي كان يبشر بها نزار قباني ذات يوم بأنها عمل انقلابي لا يركن للهدوء ..
……………………………………………………………..
حاتم الكاملي – مختص في التسويق الرقمي و المشاريع الرقمية
@hatemkameli
التدوينة كيف سيغير الذكاء الاصطناعي صناعة المحتوى في الإعلام و التسويق الرقمي ظهرت أولاً على عالم التقنية.
المصدر: أخبار التقنية