خلف انتشار وباء كورونا (كوفيد19) آثارا وانعكاسات عديدة على مجمل الحياة في سلطنتنا الحبيبة، وهو أمر لا شك لا يقتصر على هذا البلد دون غيره من دول العالم. فمثل هذه التحديات البيئية والصحية لا تمايز ما بين دولة صغيرة وأخرى عظمى، أو بين دين أو جنس أو لون، بل لعل نتائجها وأضرارها في كثير من الأحيان تكون أخطر وأشمل لدى الدول الكبرى والمتقدمة عن الدول الفقيرة أو النامية.
على العموم، تسببت هذه الجائحة الوبائية العابرة للحدود الوطنية بأضرار على الاقتصاد الوطني وتأثيرات سلبية على الحياة الاجتماعية، ولعل هذا الأمر بديهي تتشارك فيه السلطنة مع بقية دول العالم بلا استثناء ـ كما سبق وأشرنا ـ مع التأكيد على تفاوت تلك الآثار من بلد إلى بلد آخر بسبب وجود عوامل داخلية تساهم في التقليل أو رفع نسبة تلك المخاطر والأضرار على الداخل الوطني، مثل الإمكانات المادية وثقافة المجتمع، وسرعة التصرف في الحالات الطارئة، ووجود السيناريوهات والمخططات الاستباقية لمثل هذه التحديات.
إذًا هذا الوباء يؤكد أولا عولمة القضايا البيئية والصحية، كما هو حال العولمة العسكرية والسياسية والاقتصادية، الأمر الذي يؤكد بدوره أهمية التنبه إلى أن سلطنة عمان ليست بمعزل عن الأحداث والأخطار التي ينبع أصلها من الخارج بمختلف أشكالها وأنواعها وعلى رأسها التحديات البيئية والمناخية. وبمعنى آخر، إن انتشار وباء في دولة تبعد عن سلطنة عمان آلاف الكيلومترات كالصين ـ على سبيل المثال ـ لم يجنبها خطر الإصابة والتعرض لآثار هذا الوباء، وبالتالي فإن هذه النتيجة تستدعي دائما أن يدق ناقوس الخطر وأخذ الحيطة والحذر في هذا البلد في حال حدوث أي أمر مماثل في أي دولة من دول العالم.
الأمر الآخر والذي من المهم الحديث حوله في هذا السياق، هو تعامل وإدارة الجهات الحكومية لهذه الجائحة منذ البداية، والذي يمكن أن يقال عنه بأنه كان على مستوى الحدث إلى حد بعيد، خصوصا بعد صدور الأوامر السامية بمركزية هذه الإدارة عبر تشكيل لجنة عليا، وهو ما كان له الدور الأبرز في احتواء تبعات وآثار انتشار هذا الوباء. وبمعنى آخر، إن تعدد الإدارات والقيادات حول أزمة معينة يفضي إلى تعدد القرارات، وكما هو معروف، فإن ذلك لا شك سيؤدي إلى اضطراب التوجهات وعدم استقرار الأفكار والمرئيات الخاصة بحل الأزمة، وهذا ما حدث بالفعل قبل صدور الأوامر السامية بتشكيل اللجنة العليا.
إذًا ما يجب أن نتعلمه من خلال هذا الأمر أو هذه النتيجة هو أن السلطنة بحاجة إلى مركزية في القرار حيال إدارة هذا النوع من الأزمات في المرحلة المستقبلية القادمة، وأخص بها تحديدا الأزمات البيئية كالكوارث الطبيعية والأمراض الوبائية، وعندما أشير إلى مصطلح مركزية القرار فإنني أعني بذلك أهمية أن تكون هناك لجنة عليا دائمة ذات صلاحيات تنفيذية، يعود لها القرار النهائي حول إدارة تلك الأزمة بشكل عام وشامل.
أمر آخر من المفترض أن يستدعى في هذا الوقت، وهو أمر ما بعد انتهاء وباء كورونا، ولست من مؤيدي العمل على هذا الأمر بعد الانتهاء من الفيروس، فكما أن لمواجهة فيروس كورونا لجنة عليا، فإن مرحلة ما بعد فيروس كورونا يجب أن يتم التعامل معها بحرفية أكبر وبنفس المستوى. وشخصيا أقول إن التعامل مع تبعات الأزمة هو الأهم، لأنه ومما لا شك فيه أن هذه الأزمة ستنتهي في يوم ما، ولكن المشكلة ستستمر مع التبعات والآثار المختلفة.
وإن كان من كلمة تقال في هذا السياق، ويمكن التأكيد عليها ووضع أكثر من خط تحتها، فهي أهمية أن نتعلم من هذه التجربة الشاملة، فما يحدث اليوم أقرب ما يكون إلى فرصة يجب أن لا تهمل أو يتخذ منها وسيلة للإصلاح المؤقت أو المرحلي فقط، بل يجب أن يستفاد من هذه التجربة في إعادة التخطيط لمجمل البناء الوطني، سواء كان ذلك على مستوى الإدارة السياسية من حيث التعرف على مواطن الضعف والقوة في الإدارة، ومواضع الخلل والقصور التي اتضحت من خلال معايشة الأزمة، ما المؤسسات التي تركز حولها أغلب الضغوط والتحديات؟ ما الجهات التي ثبت أنها غير قادرة على مواكبة مثل هذه الأزمات؟
أما بخصوص الجانب الاقتصادي فهو الآخر أثبت لنا وخلال أشهر قليلة بعض النتائج المهمة للغاية، والتي هي الأخرى تحتاج إلى وقفة تأمل وتفكير، حيث النجاح الذي شهدته منافذ السلطنة البحرية، خصوصا تؤكد لنا عدم مصداقية ما عايشناه من إشاعة عجز هذه الموانئ عن الاستقلالية الدولية والعمل المباشر دون وسيط وغيرها من الخرافات التي أسقطها فيروس كورونا في الذهنية الرسمية والجماهيرية، كذلك إعادة النظر في موضوع إدارة اقتصاد الأزمات، وهذا الجانب من أهم الجوانب التي يجب أن يعمل عليها سريعا، فما يوفر ويتم بناؤه في سنوات الرخاء يمكن أن يزول وينتهي في أشهر الأزمات والجدب، ما يعني من جانب آخر، إن أي اقتصاد يتم بناؤه على أسس هشة أو قواعد مؤقتة لا يمكنها التعامل مع المتغيرات والأزمات سينهار ويتلاشى سريعا جدا، مخلفا وراءه أكواما من المشاكل التي لا أول لها ولا آخر.
كما أثبتت لنا تجربة كورونا وما زالت نقطة أخرى غاية في الأهمية، وهي الاستقلالية الوطنية في الإنتاج والاكتفاء الداخلي أو الذاتي بعيدا عن النفط أو السلعة الواهنة، فكما يقال “ما حك جلدك مثل ظفرك”، وقد وجدنا أن الأزمة الراهنة جعلت من السلطنة تضطر في جوانب معينة إلى الاستيراد من الخارج، خصوصا في الجانب الغذائي كالمواشي والفواكه والخضار على سبيل المثال لا الحصر، فلماذا تخلينا عن جانب الاكتفاء الذاتي النوعي، بينما السلطنة من البلدان التي يفترض أنها زراعية ولديها ثروة بحرية يعلم عنها القاصي والداني منذ القديم؟
وبكل تأكيد هناك قضايا ومواضيع أخرى لا يمكن طرحها ومناقشتها في مقال واحد كشفتها أزمة انتشار وباء كورونا في مختلف أرجاء العالم، وإن كانت من كلمة أخيرة يمكن أن تقال فهي التحذير ودق طبول الخطر والتنبيه إلى أهمية أن نكون حذرين للغاية في السنوات القادمة، حيث “والله أعلم” ستتكاثر الأزمات الصحية والمناخية خصوصا، بل ستتزاوج تلك الأزمات معا، كما تزاوج انتشار فيروس كورونا مع انهيار أسعار النفط. ليؤدي إلى أكبر كارثة اقتصادية شهدها القرن الـ21، وهو ما يستدعي التنبه إلى تقوية البنية الوطنية الحساسة والتي يقوم عليها اقتصاد السلطنة في المرحلة الزمنية القادمة.
يجب التنبه إلى خلق اقتصاد أزمات، وقيادات أزمات، وأن يكون لنا اكتفاء ذاتي خصوصا في السلع الغذائية، وأن نجهز لأنفسنا المكانة القوية والثابتة في قرن الأزمات والفوضى والاضطراب السياسي والاقتصادي خصوصا، وأن ندرك أن في الأزمات وفي كثير من الأحيان سنكون بمفردنا، لن يقف أحد معنا، وكما يقول الإمام الشافعي رحمه الله “جَزَى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْرٍ وَإنْ كانت تُغصّصُنِي بِرِيقِي وَمَا شُكْرِي لهَا حمْدا وَلَكِن عرفتُ بها عدوّي من صديقي” لأن الجميع مصاب والجميع يعاني، سنكون دون دعم أو مساندة، وبالتالي ليس لنا إلا الله أولا، ومن ثم نحن أنفسنا، وقوفنا صفا واحدا، تقوية الداخل الوطني ومناعته، بناء وطن لا يعتمد على الآخرين إلا في أضيق الحدود فهذه سنة الحياة، وطن مرن وقادر على مواجهة الأزمات والتحديات، ولنكن بقدر المسؤولية المرحلية، وبقدر الأمانة الوطنية.
المصدر: اخبار جريدة الوطن